-جامعة آكلي محند أولحاج-
-البويرة-
-كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية-
-قسم الشريعة -
مطبوعة العقيدة الإسلامية
سنة ثالثة عقيدة و مقارنة الأديان
الدكتورة أنيسة زغدود
السداسي الخامس
السنة الجامعية: 2021/2022م الموافق لـ 1442/1443ه
الدرس رقم: 01
مفهوم اليوم الآخر و مرادفاته
اليوم الآخر: هو يوم القيامة، الّذي ورد ذِكره في القرآن في سبعين موضعاً، ومن تلك المواضع قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ النّساء: 87
وقد سمّي هذا اليوم باليوم الآخر: لأنّه لا يوم بعده، ووقته من يوم الحشر وإلى ما لا نهاية. فالمراد باليوم الآخر أمران:الأول: فناء هذه العوالم كلها وانتهاء هذه الحياة الدنيا بكاملها.الثاني: إقبال الحياة الآخرة وابتداؤها.
الإيمان باليوم الآخر: هو أن يُصدّق المسلم تصديقًا جازمًا بأنّ الله تعالى سينهي الحياة الدنيا في وقت ما أعدّه لذلك، و أن يُؤمن العبد بما جاء في القرآن من إخبار الله تعالى، وما جاء في سنة رسول الله -عليه السلام- بالذي يكون بعد موت الإنسان من حياة القبر بنعيمه وعذابه، والإيمان بالبعث والحشر والحساب والصحف والميزان، والإيمان بالصراط والحوض والجنة والنار، وكلّ ذلك هو في عالم الغيب؛ فهو غير مشهود من أحد، وقد أخبر الله تعالى عباده به عن طريق الرسل الكرام، والإيمان بكل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر هو واجب على كل مسلم.حيث لا يُقبل الإيمان من المؤمن حتّى يأتي به، فقال:﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر﴾ِالبقرة: 771. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُومِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾البقرة:4.
يتضمّن الإيمان باليوم الآخر عدّة أمورٍ لا يتمّ إلّا بها :
أوّلها :أن يؤمن العبْد بمقدّمات اليوم الآخر؛ كالموت، وعذاب القبر، وعلامات الساعة.
وثانيها :أن يؤمن ببعث الله للناس من القبور.
وثالثها: الإيمان بأحداث اليوم الآخر نفسه؛ كالحشر، والحساب، والجزاء، والشفاعة، والحوض، والصراط، ونحوه. وأخيراً :الإيمان بوجود الجنّة ونعيمها والنار وعذابه، وأن الناس مصيرهم إمّا إلى الجنّة أو إلى النار.
أهمية الإيمان باليوم الآخر :
عني القرآن الكريم عناية بالغة، واهتم اهتماماً
خاصاً، بالحديث عن اليوم الآخر من خلال عرض أحداثه، وتقريره في كل موقع، وإثبات
وقوعه بمختلف الأدلة والآيات، والرد على منكريه، ودحض شبهاتهم بمختلف الحجج
والبراهين.و
من ذلك :
1-الإتيان به عقب الإيمان بالله مباشرة:
الإيمان باليوم الآخر هو الركن الخامس من أركان الإيمان الستة، كما ورد في حديث جبريل المشهور: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر...» إلا أننا نلاحظ أن القرآن الكريم يضع الإيمان باليوم الآخر عقب الإيمان بالله عز وجل مباشرة في كثير من الآيات، يقول تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ البقرة: 177. وكذلك جعله بين الإيمان بالله وبين العمل الصالح حيث يقول سبحانه: ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ البقرة: 62.
وقال صلى الله عليه وسلم: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) البخاري (6018)، ومسلم (47).
2-الإكثار من التذكير به، وعرض مشاهده، وتفصيل أحداثه
فالذي يقرأ القرآن يلاحظ أنه لا تكاد تخلو سورة من سوره من التذكير باليوم الآخر، وتدبر ما سيقع فيه من أحداث ومشاهد وأهوال، قام القرآن الكريم بعرضها عرضاً مفصلاً وفي صور عديد ومتنوعة، حتى تتم العبرة والاتعاظ به على أكمل حال.بالإضافة إلى تعددأسمائه و كثرتها .
مرادفات اليوم الآخر:أي أسماؤه، وهي:
يوم القيامة: ذكر 70 مرة: القيامة في اللغة: مصدرٌ من الفعل الثلاثيّ (قام)، (يقوم)، وأُدخِلت تاء التأنيث عليها من باب المُبالغة، وسُمِّي بهذا الاسم؛ لِما فيه من أمورٍ عظيمةٍ، ومنها: قيام الناس لله -عزّ وجلّ-، ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾القيامة:1.
اليوم الآخر: 26 مرة: وسُمِّي بهذا الاسم إذ لا يوم بَعده؛ قال -تعالى ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾التوبة:18.
الدار الآخرة: 09 مرات: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾القصص:83.
الساعة :39 مرة : بيّن الإمام القرطبيّ أنّ الساعة تدلّ في اللغة على جزءٍ من الزمن دون تحديدٍ، وسُمِّيت القيامة بالساعة؛ إمّا من باب قُرب وقوعها، وإمّا تنبيهاً على ما فيها من أمورٍ عظيمةٍ، وقِيل لأنّها قد تأتي فجأةً في أيّ وقتٍ؛ ﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾غافر:59.
يوم البعث :مرتان: وقد سُمِّي بذلك؛ بسبب إحياء الأموات فيه، وإخراجهم من قبورهم؛ قال -تعالى-: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾الروم:56.
يوم الخروج: مرة: وسُمِّي بهذا الاسم؛ لأنّ الناس يخرجون فيه من قبورهم؛ للبَعث؛ ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ق:42.
الآخرة: مرة ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾الأعلى:17.
القارعة: 4 مرات: وسُمِّيت بذلك؛ لأنّها تقرع الناس بما فيها من أحداث، وشدائد؛ ﴿الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ القارعة:1-3.
يوم الفصل: 6مرات: وسُمِّي بذلك؛ لأنّ الله يفصل في هذا اليوم بين الخلائق؛ قال -تعالى-: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾النبأ:17.
يوم الدين: 10 مرات: ويُقصَد بالدِّين هنا: الجزاء؛ إذ إنّه اليوم الذي يُجازي الله -سبحانه وتعالى- فيه عبادَه على ما قدّموا من أعمالٍ؛ فيُثاب مَن فعل البِرّ، ويُعاقَب مَن ارتكب الشرّ، ولا يُعذّب الله أحداً دون إقامة الحُجّة؛ بإرسال الرُّسُل -عليهم الصلاة والسلام-، وتأييدهم بالكُتُب السماويّة، وبذلك يستحقّ العباد الثواب، أو العقاب؛ قال -تعالى- عن نفسه: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾الفاتحة:1.
الطّآمة: مرة: الطامّة في اللغة: الداهية العظيمة، وعُرِّفت كذلك ب: الأمر الذي لا يُطيقه الشخص، ولا يستطيعه، وسُمِّي يوم القيامة بالطامّة؛ لأنّه يطمّ كلّ شيءٍ؛ أي يضعه فوق بعضه البعض؛ قال -تعالى-: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾النازعات:34.
الصّآخة: مرة: وتُعرَّف بأنّها: الصيحة الشديدة التي تصمّ الأُذن؛ لقُوّتها؛ قال -تعالى-: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾عبس:33.
يوم الحسرة: مرة: الحَسرة في اللغة: أشدّ مراحل النَّدَم، ويوم الحسرة هو: اليوم الذي يكون فيه النَّدَم شديداً، وهو يوم القيامة؛ إذ يرى كلّ عبدٍ حصيلة أعماله،وتكون الحسرة بما يراه أهل النار من منازل أهل الجنّة، فتشتدّ حَسرتهم؛ قال -تعالى-: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ﴾مريم:39.
الغاشية : مرة: وسُمِّيت بالغاشية؛ لأنّه يغشى الخلائق بما فيه من أحداث، وشدائد؛ ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾الغاشية:1.
يوم الخلود: مرة: إذ إنّه دائمٌ أبديٌّ لا انتهاء له؛ يقول -تعالى- مخاطباً أهل الجنّة ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾:ق:34.
الواقعة: مرتان: قال الضحّاك إنّ الواقعة هي: الصيحة؛ أي النَّفْخ في الصُّور، ويُقصَد بالواقعة أنّ القيامة ليست كاذبةً، ولا رَدّ لها فهي ستقع لا محالة؛ ﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾الحاقّة:15.
يوم الحساب: 4 مرات: وسُمِّي بيوم الحساب؛ لأنّ الله -سبحانه- يُحاسب عباده على كلّ ما صدرَ منهم في الحياة الدُّنيا، وقال الإمام القرطبيّ في تفسير معنى الحساب: "معنى الحساب: أنّ الله -عزّ وجلّ- يسجّل ويُحصي ويُعدّد على الخلق أعمالهم من إحسانٍ أو إساءةٍ، ثمّ يعدّد عليهم نعمه التي تقلّبوا فيها: نعمة الخلق والإيجاد، والرزق والإمداد والإسعاد، والهداية والدِّين، ثمّ يقابل بعضها ببعضٍ؛ فما زاد عن الآخر حكم للزائد بحكمه الذي عيّنه له بالخير أو بالشرّ. ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ص:53.
يوم الوعيد: مرة: أي وقت تحقيق الوعيد الذي ذكره الله -تعالى-؛ بمحاسبة العبد على ما قدَّم لله من أعمالٍ ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ق:20.
يوم الآزفة: مرة: وسُمِّي بذلك؛ لقُربه؛ أي اقتراب وقت وقوعه، يُقال في اللغة: أَزِفَ الرجل؛ أي قرب.﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ﴾غافر:18.
يوم الجمع: 3مرات: وسُمِّي بذلك؛ لأنّ الله يجمع الخلائق كلّها؛ للحساب، والجزاء؛ ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾الشورى:7.
يوم التغابن: مرة: وسُمِّي بذلك؛ لِما يكون فيه من الخُسران والضَّعف، وما يكون فيه من تمنّي الأقلّ منزلةً مكان الأعلى منه، وقِيل إنّ يوم القيامة سُمِّي بيوم التغابُن؛ لأنّ الأمور والأشياء تبدو بخِلاف طبيعتها وحقيقتها في الحياة الدُّنيا ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾التعابن:9.
يوم التلاقِ: مرة: وسُمِّي بذلك؛ بسبب التقاء أهل الأرض مع أهل السماء، كما يُقابل كلّ شخص ما قدَّمه من أعمالٍ في حياته الدُّنيا؛ ليُجازى عليها ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾غافر:15.
يوم التناد: مرة: إمّا أن يُراد به: الفراق والبُعد، أو المُناداة، والنداء الدالّ على رَفْع الصوت؛ ﴿وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾غافر:32.
الحآقّة: 3 مرات: إذ تظهر الأمور، والحقائق، وما أُخفِي في الصدور يوم القيامة، فتَحِقّ وتتنزّل بالخلائق ﴿الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾الحاقة:1-3.
الدرس رقم: 02
أشراط الساعة
تنسب الأشراط إلى الساعة، وهي الأشراط الصغرى والكبرى للساعة، أي أماراتها وعلاماتها التي تدل على قرب اليوم الآخر. قال تعالى: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾ محمد: 18.
و وقت الساعة من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الأعراف: 187، وفي حديث جبريل: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ((ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل)).
لكن ثبت في الأحاديث: أنها ستكون في يوم جمعة: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة.)). رواه مسلم في صحيحه.
أشراط الساعة الصغرى:
هي العلامات التي تدلّ على وقوع القيامة إلّا أنّها تسبقها بزمنٍ طويلٍ لتصبح ممّا يعتاد الناس وقوعه.نذكر منها:
1- بِعثة النبي صلى الله عليه وسلم : فهو خاتم الأنبياء وبه انقطع الوحي، قال صلى الله عليه و سلم:«بُعثت أنا والسّاعة كهاتين»ـ وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وقرن بينهماـ البخاري(ج6/ص206)، مسلم (ج8/ص207-209).
2-انشقاق القمر: قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾القمر:1.
عَنْ اَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه اَنَّ اَهْلَ، مَكَّةَ سَاَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَنْ يُرِيَهُمْ آية، فَاَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ، حَتَّى رَاَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا. صحيح البخاري: - باب انْشِقَاقِ الْقَمَرِ: 3916. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِقَّتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(( اشْهَدُوا )). صحيح مسلم: – باب انْشِقَاقِ الْقَمَرِ 7249.
3-ما ورد في حديث جبريل عليه السلام: «...أن تلد الأمة ربّتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان».
4-ظهور نار من الحجاز تضيء لها أعناق الإبل في الشام، خرجت في حدود سنة 654ه،قال صلى الله عليه وسلم :«لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى». صحيح مسلم، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز/2902- ص1328.
5- قبض العلماء وموتهم، وكثرة الزلازل والقتل، وظهور الفتن والبلايا، قال النبي -صلّى الله عليه وسلّم-:(( (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، ويَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وتَظْهَرَ الفِتَنُ، ويَكْثُرَ الهَرْجُ -وهو القَتْلُ القَتْلُ- حتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ .)) البخاري ، عن أبي هريرة، الرقم: 1036.
أشراط الساعة الكبرى
تُعَرَّف علامات الساعة الكُبرى بأنّها الآيات العظيمة الخارقة للعادة، والتي تَظهر مُعلِنةً عن قُرب انتهاء الدنيا، وقيام الساعة، ويُشار إلى أنّ أيّاً منها لم يظهر بعد، ويكون وقوع هذه الآيات مُتتابِعاً؛ أي الواحدة تلو الأخرى ليس بينهما تباعد زمنيّ؛ لقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (خُروجُ الآياتِ بعضُها على إِثْرِ بعضٍ ، يَتَتَابَعْنَ كما تَتَابَعُ الخَرَزُ في النِّظامِ). رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبي هريرة، الرقم: 3227.
وترتيب علامات الساعة الكُبرى مسألة اجتهاديّة بين العلماء، لأنّ ترتيب العلامات يختلف من حديثٍ إلى آخر.
وهي عشر آيات دلّت عليها السنّة: فعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: طلع علينارسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن نتذاكر، قال: « ما تذاكرون؟» قالوا: نذكر الساعة، قال صلى الله عليه و سلم : «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات» فذكر: «الدخان، الدجال، الدابة، طلوع الشمس من مغربها، نزول عيسى بن مريم ، يأجوج ومأجوج، ثلاثة خسوف: خسف من مشرق، وخسف من مغرب، وخسف من جزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى المحشر ».( مسلم، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب:في الآيات التي تكون قبل الساعة. الرقم: 2901.)
1-الدخان: يملأ الأرض من المشرق إلى المغرب،
ويمكث مدة أربعين يوماً، ودليل ذلك قول الله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾. الدخان: 10.( أبو عبد الله محمد بن فرج شمس الدين القرطبي
(1425)، التذكرة بأحوال الموتى وأمور الأخرة (الطبعة الأولى)، الرياض: مكتبة دار
المنهاج، صفحة 265.)
2-الدجال:الدجّال
هو رجل من بني آدم يدّعي أنّه ربّ العالمين؛ مكّنه الله بقدرات خارقة؛ لامتحان
إيمان الناس، ويُسمّى بالمسيح الدجّال؛ لأنّ عينَه اليسرى ممسوحة؛ أي أعور، قال
رسول الله: (الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ العَيْنِ)، وقِيل لأنّه يمسح الأرض كلّها،
ويسير فيها، أمّا دجّال؛ فلأنّه كذّاب ومُحتال. مسلم، عن أنس بن مالك، الرقم: 2933.
ويمكث الدجال في الأرض أربعين يوماً، ويفتن الناس بأن يأمر السماء بالمطر فتمطر، ويأمر الأرض بالنبات فتنبت، وذلك ما قاله النبي للصحابة حين سألوه عن الدجال، قال -عليه الصلاة والسلام-: (أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ قُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ، فَذلكَ اليَوْمُ الذي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فيه صَلَاةُ يَومٍ؟ قالَ: لَا، اقْدُرُوا له قَدْرَهُ، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ، وَما إِسْرَاعُهُ في الأرْضِ؟ قالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتي علَى القَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ، فيُؤْمِنُونَ به وَيَسْتَجِيبُونَ له، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالأرْضَ فَتُنْبِتُ)، مسلم، عن النواس بن سمعان الأنصاري، الرقم: 2937.
3-نزول المسيح عيسى عليه السلام : إن نزول عيسى -عليه السلام- يكون بعد العلامة السابقة، فهو من العلامات الكبرى .قال تعالى:﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌّ﴾الزخرف:61. وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:( (وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَما فِيهَا، ثُمَّ يقولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾، النساء: 159.)) البخاري، عن أبي هريرة، الرقم: 2222. وقد ثبت أنه ينزل حاكماً بشريعة الإسلام وليس بغيرها من الشرائع زمن المهدي محمد بن عبد الله.
ويكون نزوله عند المنارة البيضاء إلى الشرق من دمشق، كما دلّ على ذلك الحديث الصحيح عن الصحابي النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أنّه قال: ((فَيَنْزِلُ عِنْدَ المَنَارَةِ البَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ علَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وإذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ منه جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ))، مسلم ، الرقم: 2937.
و يقضي عيسى -عليه السلام- على الدجال وفتنته، قال -عليه الصلاة والسلام-: ((فَيَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأمَّهُمْ، فإذا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ، ذابَ كما يَذُوبُ المِلْحُ في الماءِ، فلوْ تَرَكَهُ لانْذابَ حتَّى يَهْلِكَ، ولَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بيَدِهِ، فيُرِيهِمْ دَمَهُ في حَرْبَتِهِ)) مسلم، عن أبي هريرة، الرقم: 2897.
4-خروج يأجوج ومأجوج:وهما
قبيلتان كبيرتان من ذرية آدم عليه السلام، أقام ذو القرنين عليهم سداً بسبب
إفسادهم في الأرض، قال تعالى: ﴿فَإِذا جاءَ وَعدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ وَكانَ
وَعدُ رَبّي حَقًّا * وَتَرَكنا بَعضَهُم يَومَئِذٍ يَموجُ في بَعضٍ وَنُفِخَ فِي
الصّورِ فَجَمَعناهُم جَمعًا﴾، الكهف: 98-99. ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ
مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾الأنبياء:96. ويكون خروجهم
بعد نزول عيسى -عليه السلام- وقتله للدجال، ويأذن الله لهم بخرق السدّ؛ فيخرقونه
ويخرجون بين الناس، وينتشرون في الأرض، ويشربون مياهها، ويتحصّن الناس منهم، فلا
يبقى في الأرض غيرهم، ثم يرمون بِأسهمٍ إلى السماء، فيعيدها الله لهم مليئة
بالدماء ليفتنهم، ويبنما هم كذلك يسلّط الله عليهم دوداً في أعناقهم، فيهلكون
بسببه.( ابن كثير (2003)، البداية والنهاية (الطبعة الأولى)، مصر: دار هجر للطباعة
والنشر ، ص 236، جزء 19.)
5-طلوع الشمس
من مغربها:تختلّ حركة الكون بطلوع الشمس من جهة
الغرب على غير عادتها التي ألِفَه الخلق عنها؛ وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه
وسلم: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها، فإذا
طَلَعَتْ فَرَآها النَّاسُ آمَنُوا أجْمَعُونَ، فَذلكَ حِينَ: ﴿لا يَنْفَعُ
نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ، أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها
خَيْرًا﴾الأنعام: 158. وتأكيداً على أنّ التوبة لا تنفع حينها، قال النبي عليه
الصلاة والسلام: ((ثَلاثٌ إذا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ
آمَنَتْ مِن قَبْلُ، أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِن
مَغْرِبِها، والدَّجَّالُ، ودابَّةُ الأرْضِ)) مسلم، عن أبي هريرة، الرقم: 158.
6-خروج
الدابّة:أخبر بها الله -عزّ وجلّ- وأكّدها
النبي -عليه الصلاة والسلام-، إذ قال سبحانه: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ
النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾،ا لنمل: 82. فتخاطب الدابة الناس، وبها يتميّز أهل
الإيمان عن غيرهم. وجاء ذكر الدابة عن حذيفة بن أسيد الغفاري في الحديث السابق. قيل تخرج من مكة وتكلم الناس وتطبع على جبين
الكافر(كافر)، وعلى جبين المؤمن(مؤمن).
7-8-9- الخسوفات الثلاثة:تُعَدّ لفظة (الخَسْف) مصدراً للفعل (خَسَفَ)، فَخَسَفَت الأرض؛ أي غارت بمَن عليها، وخَسَفَت به الأرض؛ أي اختفى بداخلها. وهذه الخسوف الثلاثة ليست كغيرها ممّا يَحدُث الآن، فهي أعظم مكاناً وقدراً، وتكون في المشرق، وفي المغرب، وفي جزيرة العرب كما أخبر رسول الله: (وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بجَزِيرَةِ العَرَبِ).
10- النار التي تخرج الناس إلى محشرهم :اتّفق العلماء على أنّ خروج النار هي آخر علامات الساعة الكُبرى؛ لقول رسول الله: (وَآخِرُ ذلكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إلى مَحْشَرِهِمْ) مسلم ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري، الرقم: 2901. ويُفهَم من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ هذه النار تَخرُج من اليمن، وتَسوق الناس إلى مَحشرهم وهو بلاد الشام؛ لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ستَخرُجُ نارٌ من حَضرموتَ أو من نحوِ بحرِ حضرموتَ قبلَ يومِ القيامةِ تَحشُرُ النَّاسَ قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، فما تأمُرُنا؟ فقالَ: عليكُم بالشَّامِ)، وهذه النار ليس الهدف منها إحراق الناس، وإنّما سَوقهم إلى مَحشرهم، فتبقى مُلازمة لهم ليلاً ونهاراً، تبيت معهم وترحل معهم، وتبقى هكذا حتى تَصل بهم إلى الشام، وقد ورد ذلك عن رسول الله بقوله: (ويَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَقِيلُ معهُمْ حَيْثُ قالُوا، وتَبِيتُ معهُمْ حَيْثُ باتُوا، وتُصْبِحُ معهُمْ حَيْثُ أصْبَحُوا، وتُمْسِي معهُمْ حَيْثُ أمْسَوْا). (سعيد اللحام (1992م)، علامات الساعة، بيروت: دار الفكر اللبناني، ص104. )
أخبر رسول الله أنّ الساعة لا تقوم إلّا على شرار الخلق، أمّا المؤمنون منهم فيُنجّيهم الله من أهوالها؛ وذلك بإرسال ريح طيّبة تقبض أرواحهم، فلا تظلّ على الأرض نَفْس في قلبها مثقال ذرّة من إيمان؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِن قِبَلِ الشَّأْمِ، فلا يَبْقَى علَى وَجْهِ الأرْضِ أَحَدٌ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ، أَوْ إيمَانٍ إلَّا قَبَضَتْهُ، حتَّى لو أنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ في كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عليه، حتَّى تَقْبِضَهُ قالَ: سَمِعْتُهَا مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ))، مسلم، عن عبد الله بن عمرو، الرقم: 2940 .
الدرس رقم :03
تفاصيل أحداث اليوم الآخر:
يبدأ اليوم الآخر بالنسبة للإنسان بالموت، أما الكون بما فيه ومن فيه فبقيام الساعة، ثم تستمر الأحداث متتالية حتى الخلود الأبدي في نعيم الجنة أو في عذاب النار.
1- الموت و الحياة البرزخية: الموت هو قانون عام شامل لجميع الموجودات، قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ العنكبوت: 57.
والموت هو مفارقة الروح للجسد، كما أن الحياة تعني إتصال الروح بالجسد، ومتى فارقت الروح جسد صاحبها فقد مات وانتهى أجله، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، الأعراف: 34.
والموت حقيقة مشاهدة محسوسة، وكل إنسان يوقن أنه سيموت. يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ الجمعة: 8. ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ ،الفجر: 27. ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ .يونس: 62 – 64.
فبالموت ينتقل الإنسان من عالم الدّنيا إلى عالم البرزخ، وفي عالم البرزخ تنكشف للإنسان حقائق لم يكن قد شاهدها أو علم بها قبل الموت.فالإنسان لا يفنى ولا ينعدم بالموت، وإنّما الذي يفنى هو جسده فقط.
تعريف البرزخ لغةً
: الحاجز بين الشيئين، المانع من اختلاطهما وامتزاجهما، قال تعالى: ﴿مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾، الرحمن:
19-20.
تعريف البرزخ شرعاً:
مرحلةٌ ما بعد الموت، وهو ما بين الدنيا والآخرة، ويستمر من وقت الموت إلى البعث
عندما يُنفَخ في الصور. قال تعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا
وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾المؤمنون : 99-100
وجاءت الإشارة إلى الحياة البرزخية في قوله تعالى عن آل فرعون:﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾غافر: 46. و عن قوم نوح : ﴿مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ﴾ نوح :25.
بالإضافة إلى قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: ((إنَّ القبرَ أوَّلُ منازِلِ الآخرَةِ فإن نجا منهُ فما بعدَه أيسَرُ منهُ وإِن لَم يَنجُ مِنهُ فما بعدَه أشدُّ منهُ))رواه السيوطي، في الجامع الصغير، عن عثمان بن عفان، الرقم: 2079 .
والقبر من أعظم الفتن، وأصعب الأمور التي قد يتخيلها الإنسان، ولذلك كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يستعيذ بالله منه، حيث كان يقول:( (اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن عذابِ جَهَنَّمَ ومِن عذابِ القبرِ))، رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن عبد الله بن عباس، الرقم: 3494 .
روى هانئ مولى عثمان بن عفان، قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى، حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( إنَّ القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه)) . رواه الترمذي (2308)، وابن ماجه (3461)، وأحمد (1/63) (454)، والحاكم (4/366).
وعندما يوضع الميت في القبر فإنه يضمه ضمة لا ينجو منها أحد كبيراً كان أو صغيراً، صالحاً أو طالحاً، فقد جاء في الأحاديث أن القبر ضم سعد بن معاذ، وهو الذي تحرك لموته العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه)). رواه النسائي (4/100)، والطبراني (6/10) (5340).
وجاء في الحديث الذي يرويه البراء بن عازب عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (( فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾إبراهيم: 27، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، وقال في العبد الكافر أو الفاجر: ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد، فيقول: هاه، هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقولان: لا دريت ولا تلوت فينادي منادي أن كذب عبدي)) . رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/287) (18557).
ولما كان ما بعد القبر أيسر منه لمن نجا، فإن العبد المؤمن إذا رأى في قبره ما أعد الله له من نعيم يقول:(رب عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي). جزء من حديث رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/295) (18637). والعبد الكافر الفاجر إذا رأى ما أعد الله له من العذاب الشديد فإنه يقول على الرغم مما هو فيه من عذاب: (رب لا تقم الساعة.) جزء من حديث رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/295) (18637).
ولا شك أن الأرواح في البرزخ متفاوتة من حيث منازلها؛ و من ذلك:
أرواح الأنبياء: حيث تكون في أعلى المنازل في عِلِّيّين، في الرفيق الأعلى، فقد سمعت سيدتنا عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حين كان في لحظة الاحتضار، يقول: (اللهم الرفيقَ الأعلى)، البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الرقم: 6348 . وهم متفاوتون في هذه المنزلة أيضاً، أي أنّهم ليسوا جميعاً في المرتبة نفسها، كما رآهم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في ليلة الإسراء والمعراج.
أرواح الشهداء: الشهداء أحياء عند ربهم يُرزَقون، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، آل عمران: 169. وسُئِل عبد الله بن مسعود عن تفسير هذه الآية، فقال: سمعنا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، تسرحُ من الجنةِ حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديلِ). مسلم، عن مسروق بن الأجدع بن مالك، الرقم: 1887 .
أرواح
المؤمنين: تكون طيوراً تَعلق في شجر الجنة، وتبقى كذلك إلى حين يبعث الله
أجسادهم. كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنَّما نسَمةُ المؤمنِ طائرٌ
يُعلَقُ في شجرِ الجنَّةِ، حتَّى يرجعَ إلى جسدِهِ يَومَ يُبعَثُ)، رواه الألباني،
في صحيح ابن ماجه، عن كعب الأنصاري، الرقم: 3465 .
أرواح
العصاة: حيث جاءت النصوص تبيّن مصير كل معصية على
حِدة، فالذي نام عن الصلاة المكتوبة يُشدَخ رأسه بصخرة، والزُّناة يُعذَّبون في
ثقب يشبه التَّنور، ضَيّق من الأعلى واسع من الأسفل، فيه نار من تحته، إلى غير ذلك
من صنوف العذاب.
2- البعث :
بعد حدوث جميع أشراط الساعة يحدث الحدث الأعظم، ألا وهو الانقلاب الكوني حيث تبدل الأرض والسماوات، وتنتهي الحياة الدنيا تماما، وقد ورد ذكر هذا الانقلاب الكوني العظيم في كثير من آي و سور القرآن الكريم :[ التكوير، الانفطار، الانشقاق، الزلزلة، القارعة...]
قال تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُعُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾التكوير:1-13.
البعث في اللغة: يطلق على معان عدة:
ا-الإرسال: يقال بعثت فلاناً أو ابتعثته أي أرسلته. ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ الأعراف: 103، معناه أرسلنا.
ب-الإيقاظ من النوم: يقال بعثته من نومه إذا أيقظته.
ج-الإثارة: وهو أصل البعث، ومنه قيل للناقة: بعثتها إذا أثرتها وكانت قبل باركة.
د-النشور: بمعنى البسط والانتشار والتقلب، لهذا يسمى يوم البعث يوم النشور، قال تعالى: ﴿واللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾فاطر:9.
البعث اصطلاحا:إحياء الله للموتى وإخراجهم من قبورهم للحساب والجزاء. و يكون بإحياء الأجساد وعودة الأرواح إليها بعد النفخ في الصور النفخة الثانية كما قال الله تعالى :﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِی الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فیهِ أُخْری فَإِذا هُمْ قِیامٌ ینْظُرُون﴾ الزمر: 68. قال ابن كثير : البعث وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة. ابن كثير ج4 ص 614. قال الله تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ﴾الحج: 6-7. ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ القمر:7.
أدلة القرآن في إثبات البعث:
نهج القرآن الكريم في الاستدلال على البعث، وتحقُّقِ وقوعه منهجاً قوياً، يجمعُ بين ما فُطِرَتْ عليه النفوس من الإيمان،و بين ما تشاهد وتحس ، وبين ما تقرره العقول السليمة، وتلك الطريقةُ التي تميّزَ بها القرآن الكريم .
1-الاستدلال على البعث بالنشأة الأولى: ومعناه أن الإعادة أسهل من البدء : إن الله الذي خلق شيئاً أول مرة يقدر على إعادته. بل هو على إعادته أقدر. وكلٌ عليه هين سبحانه. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الروم:27. ﴿وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ﴾ مريم: 66-67. ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ ﴾ الواقعة: 62. ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾الأنبياء: 104.فكما خلق الله الإنسان أول مرة : قادر على أن يخلقه مرة أخرى .
2-الاستدلال على البعث بخلق السماوات والأرض: فإن خلقها أعظم من خلق الإنسان، قال تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا َعْلَمُونَ﴾غافر:57. قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ الأحقاف: 33. ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا﴾ الإسراء: 99. أخبرنا الله تعالى أن خلق السموات والأرض أكبر من خلقنا، فلا عجب أن يقدر على أن يعيد خلقنا.
3- الاستدلال على البعث بإحياء الأرض بعد موتها وخلق النباتات المختلفة:
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا
لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾فصلت:39. ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء
مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ
لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ ق:
9 - 11. ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ الروم:
19. ووجه
الدلالة واضح و هو من الأمور المشاهدة: أرض أصابها الجدب فإذا بأشجارها تيبس بعد
نضارتها، وإذا بتلك الأرض هامدة خاشعة مستكينة قد مات منها كل شيء ، فيريد الله
إحياءها، فتنزل عليها الأمطار، فإذا بها قد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج،
وكأنها لم تكن هي التي كانت ميتة بالأمس قبل أن تمطر، فإذا بثمراتها تؤتي أكلها من
كل نوع، وإذا بها تكسى حلة خضراء. فلو كان مستحيلا إعادة الحياة إلى الإنسان مرة
أخرى ،لما عادت الحياة إلى النباتات المختلفة بعد موتها لأن المشابهة واضحة في
القدرة الإلهية في إعادة الحياتين سيرتهما الأولى.
4-الاستدلال
على البعث بإخراج النار من الشجر الأخضر: قال تعالى:
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ﴾ يس:
80 .﴿ أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ
الْمُنشِؤُونَ ﴾ الواقعة:
71 ـ 72. وفي الآيتين استدلال بتوليد النار مع حرها ويبسها من الشجر الأخضر
مع برده ورطوبته.و الشجر إنما يكون أخضر إذا كان مليئاً بالماء، فمن قدر على إخراج
النار من هذا الشجر المليء بالماء قادر على إحياء الأموات من قبورهم. ووجه دلالة
النار على البعث أن النار تكمن في الشجر والحجر ثم تظهر بالقدح وتشب بالنفخ،
فالحجر، والشجر كالقبر والقدح والنفخ كالنفخة في الصور.( محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي
في القرآن الكريم، ص (149 – 150).
4- الاستدلال على البعث
بما وقع من البعث الحسي المشاهد في الحياة الدنيا: وذلك بإحياء الله لبعض الموتى في الحياة الدنيا
ليكون ذلك دليلاً على البعث في يوم القيامة كما في الآيات الآتية:
1- قصة العزير – أو غيره ممن ذكرهم علماء التفسير من الخلاف في تعيين المار على
تلك القرية :
قال تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى
عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ
وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً
لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ﴾ البقرة: 259.
2- طلب إبراهيم من ربه مشاهدة كيفية إحياء الموتى.قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن
قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ
الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ
جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ ﴾ البقرة: 260.
3- موت بني إسرائيل الذين تنطعوا في إيمانهم واشترطوا لذلك أن يروا ربهم، فأخذتهم
الصاعقة، ثم بعثهم الله ليريهم قدرته.قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ
وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ البقرة:
55.
4- إخبار الله عن قتيل بني إسرائيل الذي أعاد الله إليه الحياة بعد ما قتل وأخبر
عن قاتله معجزة لنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام.فقال تعالى: ﴿ فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ البقرة: 73.
5- إخبار الله تعالى عن إماتة آلاف الناس خرجوا من ديارهم حذر الموت، فأماتهم الله
ثم أحياهم. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ
فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ البقرة:
24.
6-ما أخبر الله به عن عيسى عليه السلام من
أنه كان يحيي الموتى بإذن الله . قال تعالى:﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ
اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ
﴾.آل عمران :49 وهذه الأدلة المتقدمة أدلة مادية حسية، وقعت كلها لتدل على إحياء
الموتى بعد مماتهم وهذا برهان قطعي على القدرة الإلهية.
5- الاستدلال على البعث بحصول اليقظة بعد النوم: فإن النوم أخو الموت واليقظة شبيهة بالحياة بعد الموت فنحن كل يوم نموت ونبعث.قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾الأنعام : 60. قال تعالى : ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.الزمر :42و.المراد منه الاستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر كما ذكره الرازي وغيره.
6- الاستدلال على البعث بعدم عبثية الخلق: قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾المؤمنون : 115. و﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ﴾القيامة : 36. و﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ غافر : 58.وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ﴾ السجدة : 18. فعدل الله وحكمته وإحقاقه الحق وإبطاله الباطل وإعطاؤه كل ذي حق حقه وتميزه بين الخبيث والطيب والمحسن والمسيء كل ذلك يأبى إلا أن يكون هناك يوم آخر ينال فيه كل إنسان جزاؤه وما يستحقه من الثواب والعقاب على ما قدم من خير أو شر.
القرآن الكريم في تقرير عقيدة البعث ركز على ثلاث أصول :
أحدها: تقرير كمال علم الرب سبحانه :﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ يس: 78 ـــ 80.
ثانيها: تقرير كمال قدرته : ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾يس:81 ــ 82.
ثالثها: تقرير كمال حكمته : ﴿ أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا وأنّكم إلينا لا ترجعون﴾ المؤمنون:115.
الدرس رقم 04
3- الحشر و الحوض و الشفاعة:
الحشر : إطلاق لفظة الحشر على الكثرة والجماعة، مراداً بها جمع الناس في مكان. قال تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ﴾الشعراء: 36 .
الحشر اصطلاحا : قال الأزهري نقلاً عن الليث: الحشر: حشر يوم القيامة.تهذيب اللغة. (4 / 177).
قال ابن حجر في بيان معنى الحشر:حشر الأموات من قبورهم وغيرها بعد البعث جميعاً إلى الموقف. قال الله عز وجل:﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ الكهف:47 .(فتح الباري. 4/379 ) .وقال البيجوري: (الحشر عبارة عن سوقهم – أي الناس – جميعاً إلى الموقف وهو الموضع الذي يقفون فيه) .(شرح جوهرة التوحيد. ص 170.)
ومن الأدلة على حشر الناس يوم القيامة:
قول الله تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ إبراهيم: 48.قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ الواقعة: 49- 50. ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾يونس :45
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ». متفق عليه: رواه البخاري (6527)، ومسلم (2859)، واللفظ له.
صفة الحشر: عن حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى يكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه.)) رواه مسلم (2864).
وعن سهلِ بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( يحشرُ النَّاسُ يومَ القيامة على أرضٍ بيضاء عفراء كقرصةِ النَّقى ليس فيها معلم لأحد)). رواه البخاري (6521)، ومسلم (2790).
شفاعة الرسول يوم القيامة:
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَهُ، فَيُؤْتَاهَا، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه البخاري (6304)، ومسلم (199)، واللفظ له.
يشفع الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الخلائق
كلّها يوم القيامة عند الله تعالى؛ وذلك حينما يقف الناس يوم القيامة مَوقفاً
عصيباً؛ مُنتظِرين الحساب، فيتوسّلون بالأنبياء -عليهم السلام-؛ كي يُعجّل الله
الحساب والقضاء بينهم؛ فيتوسّلون بآدم، ثمّ بنوح، ثمّ بإبراهيم، ثمّ بموسى، ثمّ
بعيسى، حتى إذا أتوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا
لها". فيشفع لهم في فصل القضاء ، فهذه الشفاعة العظمى، وهي من خصائص النبي
صلى الله عليه وسلم. وهي من المقام المحمود الذي وعده الله إياه ، فيشفع حينها لأهل الموقف جميعاً؛ وذلك المقصود
بقَوْله تعالى:﴿وَمِنَ اللَّيلِ فَتَهَجَّد بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَن يَبعَثَكَ
رَبُّكَ مَقامًا مَحمودًا﴾. الإسراء: 79. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- من أنّ
النبيّ -عليه الصلاة والسلام- يُقال له يوم القيامة: (سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ
تُشَفَّعْ). مسلم ، الرقم: 193.
الحوض:
أما الحوض فهو تكرمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم: روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، قلنا: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «لقد أنزلت علي آنفا سورة»، فقرأ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ ثم قال: «أتدرون ما الكوثر؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم في السماء، فيختلج العبد منهم فأقول: ربي إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك» . فيتبين لنا أن ماء الكوثر والحوض شيء واحد، كما جاء في حديث مسلم، وأن أصله في الجنة، فما كان جاريا منه في داخلها فهو ماء الكوثر، وأما ما انصب في خارجها فهو ماء الحوض، و يكون في عرصات يوم القيامة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال :((إِنَّ قدر حوضي كما بين أَيْلَه وصنعاء من اليمن، وإِنَّ فيه مِنَ الأباريقِ بعدد نجوم السماءِ)). رواه البخاري (6585)، ومسلم (2303) .
عن أبي عبيدة عَنْ عائشة رضي الله عنها قال: سألتُها عن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾الكوثر:1 قالت: نهْرٌ أعطيهِ نبيّكُم صلى الله عليه وسلم شاطئاهُ عليه دُرٌّ مجوَّفٌ آنيته كعدد النجوم.رواه البخاري (4965)
قال النبي صلى الله عليه وسلم :((إنِّي فرطُكُم على الحوض، من مَرَّ عليَّ شرب، ومَنْ شربَ لم يظمأ أبداً. لَيَرِدَنَّ عليَّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفونني ثمَّ يحالُ بيني وبينهم.)) رواه البخاري (6583). قال أبو حازم فسمعني النعمان بن أبي عيَّاش فقال: هكذا سمعت مِنْ سهل؟ فقلت: نعم. فقال: أشهَدُ على أبي سعيد الخدري لسمعتُهُ هو يزيدُ فيها : ((فأقول إنَّهم مِنِّي، فيقالُ: إنَّك لا تدري ما أحْدَثُوا بعدك، فأقول سُحْقاً سُحقاُ لمن غير بعدي.)) رواه البخاري (6584).
عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة، ومنبري على حوضي.)) رواه البخاري (1196)..
- معلم: ZEGHDOUD ANISSA
جامعة أكلي محند أولحاج البويرة
قسم الشريعة
سنة ثالثة عقيدة و مقارنة الأديان 2120/2220
المقياس :عقيدة إسلامية الأستاذة د: أنيسة زغدود
السداسي السادس
مفردات المقياس : العقيدة الإسلامية
محتوى المادة:
المبدأ الوجودي للإنسان
الإنسان بين الماهية والوجود
خلق الإنسان في القرآن الكريم
عناصر ماهية الإنسان في القرآن الكريم والمذاهب الفلسفية: المادية والروحية
النقد العلمي لنظرية داروين
قيمة الإنسان في العقيدة الإسلامية
خلافة الإنسان في القرآن الكريم
المراجع :
مبدأ الإنسان عبد المجيد النجار
قيمة الإنسان عبد المجيد النجار
خلافة الإنسان بين الوحي والعقل عبد المجيد النجار
الذريعة إلى مكارم الشريعة الأصفهاني
الإنسان في القرآن للعقاد
قضيايا الإنسان في القرآن لبنت الشاطئ
آدم لرابح تركي
أبي آدم لعبد الصبور شاهين
الإنسان ذلك المجهول لألكسيس كاريل
المبدأ الوجودي للإنسان:
السؤال الأساسي في المسألة الوجودية و الماهية بالنسبة للإنسان هوسؤال يتعلق بالأسبقية الزمنية :
هل وجود الإنسان سابق على ماهيته،أم أن ماهيته سابقة على وجوده ؟
الوجود : هو التحقق العيني لأفراد الإنسان في الواقع ، كأن نقول : فلان ولد بتاريخ كذا و في مكان كذا بمواصفات كذا ...
الماهية : عن الجرجاني «ماهية الشيء: ما به الشيء هو هو». وهي حقيقة الشيء وذاته التي تميزه عمّا سواه.و هنا صفات الإنسان الأساسية التي يعرف بها ككائن ضمن بقية الكائنات و المخلوقات.
ماهية الإنسان سابقة على وجوده في الإسلام :
ثمة إجماع في مقالات الإسلاميين على أن ماهية الإنسان سابقة على وجوده، أي أن ماهية الإنسان كانت قائمة في العلم الإلهي الأزلي قبل إيجاد الإنسان.
كما تجمع مختلف الفلسفات الدينية على كون ماهية الإنسان سابقة على وجوده، على عكس الفلسفات الإلحادية، إذ تشير إلى أن وجود الإنسان سابق على ماهيته. كما هو في مبدأ الفلسفة الوجودية: (مبدأ الحريَة المطلقة لدى الإنسان؛ لبناء شخصيَة الإنسان الحرة الواعيَة.)
الأسبقية بين الوجود و الماهية في القرآن الكريم .
يلاحظ في النص القرآني أن فعل الخلق الإلهي يقترن دائما بالعلم :
(يخلق ما يشاء و هو العليم القدير) سورة الروم – الآية : 54، (و خلق كل شيء و هو بكل شيء عليم) سورة الأنعام – الآية : 101، (فسواهن سبع سماوات و هو بكل شيء عليم) سورة البقرة: 29.
هذا الاقتران يفيد أن ثمة علما مسبقا بما سيخلق قبل وجوده، أي أن ماهية المخلوق موجودة في العلم الإلهي قبل إيجاد المخلوق.
و فيما يخص الكائن الإنساني، فإن النص القرآني يحدثنا بتفصيل و تدقيق أكثر عن عملية خلقه، مما يمكننا من الإجابة الحاسمة على سؤال الأسبقية الزمنية فيما يتعلق بالإنسان : ( و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) سورة البقرة: 30.
فهذا الإعلام الإلهي للملائكة بخلق الكائن الجديد – الإنسان – يدل على ما قدر الله تعالى من ماهية لهذا الكائن قبل خلقه.و على أساس هذه الماهية حددت وظيفة «الخلافة» كما ختم مشهد الحوار بين الله و الملائكة بقوله تعالى : (قال إني أعلم ما لا تعلمون)، وهو تأكيد لما في علم الله من قيام لخصائص المخلوق الجديد، و هي ماهيته التي سيكلف على أساسها بالخلافة.
نستنتج من هذه الآية و أشباهها أن ماهية الإنسان سابقة على وجوده و لكن إضافة إلى ذلك، يمكن أن نستخلص من آيات أخرى أن الماهية متقدمة في الزمان على الوجود الواقعي للإنسان، مثل قوله عز و جل : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) سورة الأعراف: 172.
إذا فالأسبقية الزمنية لماهية الكائن الإنساني ذات دلالة مزدوجة حسب القرآن الكريم :
- الأولى : الأسبقية بمعنى قيام الماهية في العلم الإلهي.
- و الثانية : وجود الماهية في الواقع على هيئة روحية.
و إذا كان القرآن الكريم يشير إلى أسبقية الماهية على الوجود، فالسؤال الذي ينبغي الإجابة عنه الآن هو ما هذه الماهية التي تميز الإنسان ؟
ماهية الإنسان في القرآن :
و لكن الخطاب القرآني يضيف عنصرا آخر أو خاصية أخرى لم تتنبه إليها مذاهب التفكير المتناولة لماهية الإنسان. هذا العنصر هو « شهادة الربوبية، أي قيام الاعتراف بالألوهية و الوحدانية كعنصر أساسي في تكوين الإنسان » .فآية العهد تفيد أن شهادة الربوبية و الاعتراف بوحدانية الله مركوزة في الكائن الإنساني، و محدد من محددات ماهيته.
و هذا المعنى هو ما يمكن أن نستفيده من آية أخرى : (فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله )سورة الروم: 30.
فالدين إذن مكون من مكونات الماهية الإنسانية ، و هذا ما يؤكدن كذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم « كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه و يمجسانه» رواه البخاري.
فإذا كانت الوحدانية، أو الإسلام « دين الفطرة » أي محدد من محددات ماهيته فلماذا ينحرف عنه ؟
ماهية الحيوان و ماهية الإنسان :
لو قارنا مسألة الماهية الإنسانية بالماهية عند الحيوان، للاحظنا اختلافا جوهريا، ذلك أن الماهية تتجسد واقعيا عند الكائنات الحيوانية بمجرد وجودها، دون أن يكون للحيوان دخل في هذا التحقيق و التجسيد.
و الإنسان تتحقق خصائصه المادية كالقوام الجسمي و مكوناته بمجرد وجوده و لكن عناصره الروحية تظل كامنة فيه مستخفية في حالة القوة ،و لا تتحقق بالفعل إلا بمجهود إرادي ذاتي، « فخاصية العقل» مكون من مكونات الماهية، و لكنها لا تتحقق و تحصل الإنسانية العاقلة المفكرة العالمة إلا بالتعلم و تربية العقل، و كذلك «خاصية الوحدانية » أي فطرة الإسلام، فهي مكونة في الكائن الإنساني و لكنها لا تتحقق بالفعل إلا بتوفر شروط أخرى من طلب الحق، و وجود الدعوة بإرسال الرسل، و حفظ الرسالة و لذلك يصف القرآن الكريم أولئك الذين لم يحققوا هذه النقلة، أي إخراج « شهادة التوحيد » من حالة الكمون و القوة إلى حالة الوجود بالفعل، بالكفر و التقصير عن طلب الحق ب : ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) سورة الفرقان: 44.
إذن، فالكائن الإنساني هو الكائن الوحيد الذي تنفصل ماهيته عن وجوده، فقد يتحقق وجوده ، ولكن لا تتحقق ماهيته، فيكون أحيانا أبعد عن الإنسانية و أقرب ما يكون إلى بهيمة الأنعام.
يقول الراغب الأصفهاني : « لما كان الإنسان إنما يصير إنسانا بالعقل، و لو توهمنا العقل مرتفعا عنه لخرج من كونه إنسانا، ولم يكن إذا تخطينا الشج الماثل إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة، و العقل لن يكمل، بل لا يكون عقلا إلى بعد اهتدائه بالشرع كما تقدم، و لذلك نفى الله العقل عن الكفار، لما تعروا عن الهداية بالشرع في غير موضع من كتابه، و الاهتداء بالشرع هو عبادة الله تعالى، فالإنسان إذا في الحقيقة هو الذي يعبد الله...» «تفصيل النشأتين و تحقيق السعادتين» .
و انطلاقا من هذا المفهوم القرآني، يمكن القول أن الإنسان مخرج ماهيته من القوة إلى الفعل، و لكن هذا المفهوم لا يماثل المفهوم الوجودي، فإذا كانت الوجودية تقول بأن الإنسان صانع ماهيته، فهي تؤكد أن ليس فيه ماهية سابقة على وجوده .
نفي أسبقية الماهية على الوجود في الفلسفة الوجودية :
مفهوم الوجوديَة: الوجوديّة تيار فلسفي ظهر في القرن العشرين، نادى بأهميَة وقيمة وجود الفرد الإنساني، وانتشر في ثلاثينيَات وأربعينات القرن العشرين، ويمكن القول بأن الوجوديَة جاءت كرّدة فعل على مساوئ الحرب العالميَة الأولى، والتي خلفت وراءها آلاف القتلى والجرحى، ممّا جعل مفكري ذلك العصر يبحثون عن فكر أو تيَار يعيد للإنسان قيمته، ويعزز أهميَة وجوده، فقاموا بنشر أفكارهم عبر المسرح، والأدب، والشعر، حتى أصبح من أشهر التيَارات الفلسفيَة الإنسانيَة في أوروبا. سمّيت الوجوديّة بأسماء كثيرة كان أبرزها : فلسفة العدم، الفلسفة الانحلاليّة، وفلسفة التفرّد، ووصفت بأنّها: مرض الإنسان في القرن العشرين، وأحد أبرز أمراض العصر الحديث.
المفهوم الوجودي – في تجلياته الإلحادية – (من أشهر مفكري الوجودية الملحدة سارتر، وسيمون دي فوار، وألبير كامو، وجميعهم ينكرون وجود الله، حيث اعتبروه عاجزاً عن حلّ مشاكل الإنسان، واعتبروا الإنسان خالقاً لذاته). بنفيه لأسبقية الماهية، فهو بذلك يتماشى مع نفيه لوجود الخالق، و لكنه بهذا النفي المزدوج يسقط في تقرير عبثية الوجود الإنساني، و لا أدرية مصيره، ومن ثم غرابة أن تكون أكثر الألفاظ شيوعا في نصوص و أدبيات الوجودية هي : القلق ، العبث، الفوضى، الغثيان، إنها ألفاظ دالة على الآثار السلبية الخطيرة التي ينتجها هذا المفهوم الوجودي للإنسان في نفسية هذا الكائن و سلوكه ورؤيته لذاته و للعالم.
الإنسان في الفلسفة الوجودية:
الوجودية تيار فلسفي يميل في جوهره إلى الحرية التامة، غير المشروطة بأية مسؤولية، أو أية قيود في التفكير والممارسة. وهي تؤكد على تفرد الإنسان، كونه صاحب تفكير حر وإرادة حرة واختيار لا يحتاج إلى موجه. وبالتالي على الإنسان في المذهب أو التيار الوجودي أن يتخلص من كل موروث عقدي، أو أخلاقي يؤثر على رغباته وطموحاته الذاتية، كي يمارس حياته بحرية مطلقة دون أي قيد. والوجودية تعني من اتجاه آخر، أن وجود الإنسان الفرد يسبق ماهيته الإنسانية كمجموع أو ككتلة اجتماعية مهما كانت مرجعياتها دينية أو عرقية أو سياسية .. الخ. فماهية الكائن الفرد هي ما يحققه فعلاً عن طريق وجوده، ولهذا هو يوجد أولاً، ثم تتحدد ماهيته ابتداء من وجوده.
(وأهم منطلقات الوجودية هي الإيمان بالوجود الإنساني و يتخذون منه منطلقًا لكل فكرة، فالإنسان هو أقدم شئ في الوجود ووجوده سابق على كل شئ فالإنسان يوجد أولا ثم تتحدد ماهيته).
(والإنسان يشكل ماهيته عن طريق الاختيار بين عدد من البدائل ، و يرتبط بالاختيار الحرية وهي مبدأ أساسي أيضا في الوجودية ، لكن الحرية عندهم حرية مطلقة ليس عليها قيود أو ضوابط لذلك أدت إلى فوضى أخلاقية، و السقوط في مستنقع الرذيلة والانحلال.)
المفارقة و الاختلاف:
بينما المفهوم القرآني يقدم للبشرية التفسير المنهجي الصحيح، و الصياغة المفاهيمية الكاملة لمفهوم الإنسان، محددا أسبقية الماهية على الوجود، و لكن دون تقرير الجبرية المطلقة، بل يترك للإنسان الاختيار و الإرادة في صنع ماهيته. بمعنى إخراجها و تنميتها، محددا أيضا « الوحدانية » العقدية كبعد أساسي ومركزي في الشخصية الإنسانية، أي في فطرتهاو ماهيتها، مقررا بذلك الحكمة من الوجود الإنساني أي عبادة الله، بالمدلول القرآني الشمولي، أي العبادة بمعنى امتثال أوامر الله و إعمار الأرض وممارسة الخلافة.
إن استشعار المفهوم القرآني ينقذ العقل والنفس من القلق و العبثية، و يشعر الكائن البشري بمعنى وجوده و القصد منه، فيجعله كائنا مسؤولا ذا رسالة، لا فلتة من فلتات الصدف الطبيعية العمياء، كما ينعكس هذا المفهوم على العلاقات الاجتماعية، فيركز فيها قيم الاستخلاف و التعاون و طلب مرضاة الخالق.
المبدأ الزمني للإنسان:
بعض المفسرين يذهب إلى وجود كائنات قبل الإنسان: وجود عقلي تمثله الملائكة و الجن ووجود مادي هو الكون .
سؤال وجوابه : إذا كان آدم أول البشرية، فكيف نفسر قوله عز وجل :( و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء.) سورة البقرة: 31. ألا يكون قول الملائكة دالا على قياس آدم على مخلوق آخر من جنسه أفسد في الأرض وسفك الدماء ؟
إن هذا القول متداول عند بعض المفكرين، و لكنه حسب «د.عبد النجيد النجار » مردود، حيث يمكن تفسير موقف الملائكة بكونه نتيجة لملاحظة طبيعة هذا الكائن، المركبة من روح و مادة، فمادية تكونه تحمل عامل جذبه إلى الفساد، و هو تأويل موجود عند الطاهر بن عاشور في « التحرير و التنوير » حيث يقول : « مجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل علي من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منه في الخارج، لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة » .
كان بإمكان الملائكة إدراك ذلك، خاصة أن الله عز و جل حدد لهم بالضبط طبيعة مكونات هذا المخلوق الجديد : ( و إذا قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته و نفخت في من روحي فقعوا له ساجدين) سورة ص –: 71-72.
إذن فآدم هو الكائن الإنساني الأول ، لكن كيف وجد هذا الكائن؟ هل وجد بطفرة فجائية، أم هو حصيلة تطور تدريجي عبر سلسلة من الكائنات الحيوانية؟ هل يقبل الإسلام نظرية التطور الداروينية ؟
نظرية دارون:(تشارلس روبرت دارون) ولد سنة 1809م، وتوفي سنة 1882م.
نظرية دارون قامت على عدة أمور منها:
-أن الإنسان ما هو إلا حيوان من جملة الحيوانات، حادث بطريق النشوء والارتقاء، وأنه لمشابهته القرد، لا يمنع أن يكون قد اشتق هو وإياه من أصل واحد. وقد شرح دارون عملية التطور، وكيف تمت، في عدة نقاط أهمها:
-(الانتخاب الطبيعي) حيث تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة، والإبقاء على الكائنات القوية، وذلك يسمى بقانون (البقاء للأصلح) فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن، وذلك هو(النشوء) الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى، وهكذا يستمر التطور وذلك هو (الارتقاء).
وقد رد كثير من العلماء هذه النظرية وفندوها: يقول الدكتور (سوريال) في كتابه "تصدع مذهب دارون": إن الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب، فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الواحدة، والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة، ولا بين الحيوانات الرخوة ولا بين المفصلية، ولا بين الحيوانات اللافقرية ولا بين الأسماك والحيوانات البرمائية، ولا بين الأخيرة والزحافات والطيور، ولا بين الزواحف والحيوانات الآدمية، وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية.
-كما قام كثير من علماء الطبيعة برد النظرية ومنهم (دلاس) حيث قال ما خلاصته: (إن الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان، ولابد من القول بخلقه رأسا) ومنهم الأستاذ (فرخو) قال: إنه يتبين لنا من الواقع أن بين الإنسان والقرد فرقاً بعيداً فلا يمكننا أن نحكم بأن الإنسان سلالة قرد أو غيره من البهائم، ولا يحسن أن نتفوه بذلك) ومنهم (ميغرت) قال بعد أن نظر في حقائق كثيرة من الأحياء: إن مذهب (دارون) لا يمكن تأييده وإنه من آراء الصبيان. ومنهم (هكسلي) وهو صديق لـ (دارون) قال إنه بموجب مالنا من البينات لم يثبت قط أن نوعاً من النبات أو الحيوان نشأ بالانتخاب الطبيعي، أو الانتخاب الصناعي.
-إن كلام (دارون) نظرية، وليست حقيقة أو قانوناً، فهي تحتمل التصديق والتكذيب، ومع ذلك فلا يؤيدها الواقع المشاهد إذ لو كانت حقاً لشاهدنا كثيراً من الحيوانات والناس تأتي إلى الوجود عن طريق التطور لا عن طريق التناسل فقط.
-كما أن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات ـ كالحرباء ـ مثلاً، (تتلون بحسب المكان) هي مقدرة كائنة في تكون المخلوقات تولد معها، وهي عند بعضها وافرة، وعند البعض الآخر تكاد تكون معدومة، وهي عند جميع المخلوقات محدودة لا تتجاوز حدودها. فالقدرة على التكيّف صفة كامنة، لا صفة متطورة تكوّنها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية، وإلا لفرضت البيئة التكيف على الأحجار والأتربة وغيرهما من الجمادات.
أما موقف الإسلام من هذه النظرية فنوضحه في نقاط:
1- قولهم إن الطبيعة هي التي تخلق عشوائياً وإن الإنسان ليس له خالق مصادم للقرآن الكريم لقوله تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) [الزمر: 62].
ولقوله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر: 49] إلى غير ذلك من الآيات.
2- ادعاؤهم معرفة كيفية نشأة الأحياء على الأرض يرده قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم) [الكهف: 51]. ولقد أخبرنا الله سبحانه أنه خلق الإنسان خلقاً مستقلاً مكتملاً، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده فقال: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة: 30].
وحدثنا عن المادة التي خلقه منها، فقد خلقه من ماء وتراب (طين)(فإنا خلقناكم من تراب)الحج:5.
وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تبارك وتعالى: خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزْنُ، والخبيث والطيب" أخرجه الترمذي وأبو داود.
والماء عنصر في خلق الإنسان (والله خلق كل دابة من ماء) [النور: 45]. وقد خلقه الله بيديه (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ) [ص: 75].
وهذا الطين تحول إلى صلصال كالفخار (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) [الرحمن: 14] والإنسان الأول هو آدم عليه السلام، ولم يكن خلق الإنسان ناقصاً ثم اكتمل كما يقول أصحاب نظرية التطور. بل كان كاملاً ثم أخذ يتناقص الخلق، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله آدم عليه السلام وطوله ستون ذراعاً"، ولذلك فالمؤمنون يدخلون الجنة مكتملين على صورة آدم ففي بقية الحديث السابق "فكل من يدخل الجنة على صورة آدم" ثم يقول صلى الله عليه وسلم: "فلم يزل ينقص الخلق حتى الآن".
3_ قولهم بأن البقاء للقوي والكوارث هي سبب هلاك المخلوقات الضعيفة مردود بأن الموت يكون للأقوياء والضعفاء قال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [الملك: 2].
4_ وأخيراً نذكر بالأصل العظيم الذي يبطل هذه النظرية وهو تكريم الله لبني آدم الذي لا يتناسب مع ردّ أصل الإنسان إلى قرد. قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء: 70. وقال: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) التين: 4.
هذا بعض ما أثير حول نظرية دارون مع بعض الردود عليها، ومن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع إلى الكتب التي ألفت في نقد النظرية ومنها : "العقيدة في الله" عمر سليمان الأشقر و "الإسلام في عصر العلم" محمد فريد وجدي ص (797) ومجلة الأزهر: المجلد الثاني، السنة 48، ص (1341 ــ 1348.
نظرية التطور عند «لامارك» و «داروين»:
تشير هذه النظرية إلى أن الإنسان نتيجة تطور و تحول في الكائنات الحيوانية في اتجاه ارتقائي، و هكذا فالقرد و الإنسان ناتجان من نوع حيواني مفتقد، يعتبر حسب داروين الحلقة المفقودة، التي ينبغي البحث عنها، و هذا ما يفسر إيراد «داروين» لفكرته هذه على سبيل الافتراض و التخمين.
و عند دخول نظرية التطور الداروينية إلى فضاء الثقافة العربية الإسلامية في مستهل القرن العشرين مع أعمال «فرح أنطوان» و «شبلي شميل» و سلامة موسى انفجر نقاش وجدال حاد. و قد كان الأفغاني في نهاية القرن التاسع عشر قد انتقد النظرية ، معتبرا إياها مناقضة لما جاء به القرآن.
نظرية الخلق الابتدائي المستقل للإنسان في القرآن :
و مجموع الآيات القرآنية ، تفيد معنى قريبا من أن الكائن الإنساني لم ينتج من عملية تطور تدريجي في الكائنات الحيوانية، بل هو مخلوق بصفة خاصة، على نحو استثنائي فجائي، و الأدلة على ذلك كثيرة :
1-خلق الانسان .البقرة :30
2- عناصر الخلق :الحجر :29
3- حادثة الخلق :آل عمران :59
4-انفعال البيئة الكونية : البقرة :30 و ص : 86- 92
- إن مفهوم الطور القرآني ( و قد خلقكم أطوارا ) سورة نوح – الآية : 14. يقصد به عملية تكوين الإنسان الفرد من النطفة إلى ميلاده، و نشأته : طفولة و شبابا و شيخوخة و كهولة، وليس فيها معنى ارتقاء الكائن الحيواني و تحوله إلى الكائن الإنساني.
- إن حادثة الخلق في النص القرآني تفيد « الفورية المطلقة » بالنسبة للكائن الإنساني، و هذا ما يفسر تفاجؤ الملائكة و اندهاشهم إذ قالوا : (أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء) و هذا الاستغراب و التساؤل إذا ما وقع في سياق ما اعتيد في انصياعهم المطلق للأمر الإلهي ، إذ هم (يفعلون ما يؤمرون) لم نجد له من سبب سوى ما توفر عليه هذا المخلوق الجديد من جدة في خلقه لمن تكن معهودة في سلسلة المخلوقات» (ص: 90).
- إن كلمة « الخلق » التي عبر بها الله عز و جل واصفا فعل إيجاده للإنسان، يدل في « لسان العرب » على : « ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه »، و الابتداع طفرة وجدة، و من ثم يكون المعنى إيجاد الإنسان بخلق خاص لا نتيجة تحول و تطور.
و من هذه الأدلة و غيرها يستفاد أن المفهوم القرآني الخاص بخلق الإنسان قريب جدا من معنى أن الكائن الإنساني كائن جديد مستقل في نوعه عن غيره من الكائنات متميز عنها، متفضل عليه من طرف الله عز و جل بخلقه على نحو خاص، و الاحتفال به عند خلقه، و إسجاد الملائكة له.
و لكن بالقياس العقلي وحده يمكن القول أن التطور بمعناه الدارويني غير جائز بالنسبة للكائن الإنساني، فلو قارنا بين الأثر النفسي و الاجتماعي لنظرية التطور مع أثر نظرية الخلق الابتدائي المستقل للإنسان، سنجد أن تأثير النظرية الأولى جد سلبي، و غير لائق بمهمة الاستخلاف :
تأثير النظرية الداروينية:
- فشعور الإنسان بكونه مجرد حلقة في سلسلة تطور حيواني عضوي حتمي، و أنه من ثم متساو مع باقي العناصر الكونية من حشرات و حيوانات، فإنه لا ريب سيستشعر ضآلته و حيوانية أصله. و هذا ما يهدد قيمه و كرامته و يؤثر سلبا على وعيه بذاته، و ما ينبغي لها من قيم و سلوك.
- و نظرية التطور بقيامها على مفهوم الصراع، و بقاء الأقوى، فإنها بذلك تؤثر سلبا على النفس والاجتماع، إذ ما دام الصراع آلية الطبيعة و به أخرج الإنسان إلى الوجود، فلا ريب أن هذا المعنى لن ينتج إلا العدوانية و التصارع. مما يهدد النسق الأخلاقي الإنساني في الصميم.
-و معلوم أن النظرية الداروينية بشيوعها في القرن التاسع و بداية القرن العشرين، كانت سندا علميا فلسفيا لحركة الاستعمار، ما دامت هذه الحركة بما تفيده من استضعاف القوي للضعيف منسجمة مع طبيعة الأشياء و الأنواع، و قانون طبيعي سائر في الكون.
التأثير النفسي و الاجتماعي لنظرية "الخلق الابتدائي المستقل"
بينما التأثير النفسي و الاجتماعي لنظرية «الخلق الابتدائي المستقل » تأثير إيجابي «فالإنسان لما يقع في نفسه موقع الاعتقاد أنه كائن خص من بين سائر الموجودات الكونية بالوجود الطفري المكتمل، وأن مبدأه المكتمل ذلك متمثلا في وجود آدم عليه السلام، إنما هو تشريف له و تكريم، و أنه خلق بداية في أحسن تقويم فإنه :
-لا محالة سيحدث ذلك في نفسه شعورا بقيمته الذاتية و تميزه على سائر الكائنات الأخرى . و شعوره بهذه القيمة و التميز و اختصاصه بالتكريم الإلهي له أثره على سلوكه في الحياة. إذ يستلزم هذا الشعور السلوك وفق أوامر الخالق.
-و من الناحية الاجتماعية فإن الإيمان بالخلق الابتدائي المكتمل للإنسان، يثمر القناعة بأن هذا الإنسان الذي خلق مكتملا ينطوي على فطرة ثابتة تستمد ثباتها من وجوده المكتمل، و على أساس هذا الثبات تبنى الحياة الاجتماعية على موازين و قيم ثابتة في الأخلاق و سبل التعامل و نظم العيش، وهي موازين و قيم تتأسس على احترام الإنسان و الإعلاء من شأنه .
من هنا تتبين قيمة المفهوم القرآني للإنسان، و بالنظر إلى واقع الفلسفة الغربية الساقط في اللاأدرية و العبثية، تتضح ضرورة إشاعة هذا المفهوم القرآني ، لتصحيح وعي الإنسان بذاته، و بمهمته و مصيره.
خلق الإنسان في القرآن الكريم:(حامد طاهر ،نظرية خلق الإنسان فى القرآن الكريم):
الخلق : أهميته ومفهومه في القرآن الكريم
تبلغ استخدامات القرآن الكريم لمادة ( خ ل ق) ومشتقاتها 231 مرة. ومن الملاحظ أنها مادة طويلة نسبيًا ، مما يعنى أن مسألة الخلق تكتسب فى القرآن الكريم أهمية خاصة ، وتحظى بمكانة متميزة. وقد جرى التأكيد على بعض نقاطها أكثر من مرة ، عن طريق تكرار بعض المعانى والمواقف ، وأحيانا نفس العبارات والألفاظ .
والواقع أن مسألة الخلق قد وردت بهذا الحجم فى القرآن الكريم لتؤكد التفرقة الكاملة والحاسمة بين الله (الخالق) وكل ما سواه من الكائنات (المخلوقات). وتعريفنا الذى يمكن أن تستخلصه من مجموع الآيات القرآنية يتمثل فى أن : الخلق : هو الإيجاد ، سواء كان من العدم ، أو من مادة مخلوقة سلفا .
وفى رأيى ، أن عدم التفات الفلاسفة المسلمين ، والمتكلمين أيضا إلى هذا التعريف هو الذى يقف وراء وقوعهم فى معضلة تعدد القدماء . فلو كانوا فهموا أن الإيجاد الإلهى يشمل كلا النوعين :
أ- الإيجاد من العدم .ب- الإيجاد من مادة مخلوقة سلفا .
لكانوا قد وفّروا على أنفسهم تكلف النظريات والبراهين والأدلة التى راحوا يصنعونها لمحاولة تنزيه الله عن تلك المادة القديمة ، التي تتعارض مباشرة مع صفة الوحدانية .
وفى هذا الإطار نفسه ، بذل الفلاسفة المسلمون ، وتبعهم المتكلمون أيضا ، محاولات مضنية لإبعاد الله القديم عن الاتصال المباشر بالمخلوقات الحادثة ، تبعًا للقانون الذى اتبعوه بعيدًا عن القرآن الكريم ، والذى يقرر أن : (كل ما يتصل بالحادث فهو حادث) وأنا أقول : كلا ، فالله القديم يمكن أن يتصل بكل الحوادث المتكثرة ، دون أن يؤثر ذلك فى مفهومي قدمه ووحدانيته. والكثير من الآيات القرآنية تنطق بذلك : فى خلق آدم بيديه ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ) ص/75 . وفى مخاطبته إياه والملائكة (وعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكه فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) سورة البقرة: 31-32 ، وفى حواره مع إبليس الذى رفض السجود لآدم . كذلك فإن الله هو الذى خلق السماوات والأرض ، وهو الذى يحفظهما ، بل يمسكهما أن تزولا ، كما أنه تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد .
إن القرآن الكريم لا يحتوى على آية واحدة تدل أو حتى تشير إلى وجود مادة قديمة مع الله تعالى . وكل الآيات الواردة فى الخلق تبين وتؤكد أن الله تعالى هو الذى خَلَقَ وبرأ وصوّر . ولست أدري لماذا أغفل الفلاسفة المسلمون ، وتبعهم المتكلمون ، قوله تعالى ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [سورة الأعراف : 54] وإذا كان الخلق هو الإيجاد من العدم ، فإن الأمر هو توجه الإرادة لفعل الإيجاد ، وتفسره الآية الأخرى التي تقول ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [سورة يس : 82] .
يقول فخر الدين الرازي (ت 606) : "إن الخلق جاء فى اللغة بمعنى الإيجاد والإبداع والإخراج من العدم إلى الوجود . وقد جاء الخلق بمعنى التقدير ، وهو عبارة عن تكوين الشىء على مقدار معين" . وبالنسبة إلى قوله تعالى ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) ، يقول الرازي : "إذا فسرنا الخالق ها هنا بالمقدر حسن انتظام هذه الأسماء الثلاثة على هذا الترتيب : فالخالق يدل على كمال علمه ، والبارئ على كونه موجدا للذوات ، لا عن مادة ، والمصور يدل على أنه هو الذى صور هذه الأشياء ووضعها بكيفياتها) .
حقائق الخلق في القرآن :
- الله هو الذى خلق كل شيء : خلق السماوات السبع ، والأرض ، وما بينهما ، ومنه الإنسان .
- الله وحده هو الخالق .وما سواه لن يستطيع أن يخلق، حتى ولو ذبابة.
- أن عظم حجم المخلوقات ، وعدم وجود أي تفاوت أو خلل فيها يثبت أن الله هو : الخلاّق العليم .
- الله أحسن كل شىء خلقه ، وأحكم صنعه .
- الله استأثر بكيفية الخلق فلم يطلع عليها أحدا ، ومع ذلك فإنه يدعو الناس لينظروا : كيف بدأ الله الخلق ، كما يدعوهم للنظر في آفاق الكون ، وفي أنفسهم .
- الغرض من النظر فى الخلق الإلهي ومظاهره الكبرى والدقيقة أن يقف الناس على مدى قدرة الله وعظمته ، فيعبدوه لا يشركون به شيئًا أو أحدا ، ويتيقنوا أنه كما خلقهم أول مرة بسهولة ، فإنه قادر أيضا على بعثهم من جديد بنفس السهولة .
خلق الإنسان في القرآن :
مسألة خلق الإنسان تمثل أحد أهم الأسئلة الوجودية الثلاث يطرحها الإنسان على نفسه فى كل زمان ومكان ، وهي :- من أين جاء ؟- لماذا هو موجود ؟- ما هو المصير ؟ فإن القرآن قد أفاض فى الإجابة عن السؤال الأول ، التي تعتبر فى نفس الوقت قاعدة أساسية لإجابة السؤالين الآخرين .
نظرية خلق الإنسان في القرآن
يمكن تقسيم هذه النظرية إلى ثلاثة أجزاء متتابعة : أ- قبل الخلق .ب- أثناء الخلق .جـ- بعد الخلق .
ويهمنا فى البداية أن نؤكد على أن بناء هذه النظرية إنما يعتمد بالدرجة الأولى على الآيات القرآنية بمفهومها المباشر ، ودلالاتها اللغوية الواضحة ، دون أي محاولة للتأويل ، أو لجوء إلى المجاز .
أ- قبل الخلق:
حين أطلع الله تعالى ملائكته على أنه سيجعل فى الأرض خليفة ، [تساءل ]الملائكة قائلين :- (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ؟!
وليس يعنى [تساءل ]الملائكة بإفساد ذلك الخليفة فى الأرض أنهم قد شاهدوا بشرا أو أشباه بشر يفعلون ذلك (كما ذهب إلى ذلك بعض علمائنا الأفاضل) ، وإنما هى إشارة إلى أنه سيكون مخلوقا أرضيا ليس من طبيعة الملائكة الذين فطروا على العبادة والطاعة المطلقة لله تعالى . وقد رد الله تعالى عليهم بأنه يعلم ما لا يعلمون، أي أن للأمر حكمة تخفى عليهم ، وتدبيرًا إلهيا يتجاوز إدراكهم .
ب- أثناء الخلق :
يذكر القرآن أن الله تعالى استأثر وحده بخلق السماوات والأرض وما بينهما بما فيه الإنسان، دون أن يطلع أحدًا على عملية الخلق (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ) .أما السماوات والأرض فقد تم خلقهما في ستة أيام.والقرآن الكريم يبين اليوم الإلهي بأنه ( كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) وفي موضع آخر يقول ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) وهذا يعني أن اليوم الذى يقيسه الناس حاليا بالليل والنهار مختلف عن أيام الله تعالى ، التي قد تمتد حسب تقويمنا لآلاف السنين .
وفي أكثر من آية ، يبين القرآن الكريم أن جسد آدم قد تم خلقه من ماء، تراب ، طين ، طين لازب ، حمأمسنون ، صلصال كالفخار. ثم إن الله تعالى سوّاه ، وعدّله ، وجعله في أحسن تقديم.
ثم بعد أن استوى خلق جسد آدم على أكمل صورة ، نفخ الله تعالى فيه من روحه . ومن الواضح أن هذه الروح هي التي زودته بسر الحياة ، التي صار بها يتغذى ويتحرك ، ثم ينمو ويقوى ويتناسل بعد ذلك ، وأخيرًا يهرم ويشيخ حتى يموت .. أي تخرج الروح من جسده ، كذلك فإنها الروح التى جعلته أهلاً لتحمل المسئولية ، وتمييز الخير من الشر ، واستحق بها أن يُفضل على معظم مخلوقات الله تعالى .
جـ- بعد الخلق :وهذا الجزء يشتمل على ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : منح مزيد من التكريم الإلهي لآدم ، حيث علّمه الله تعالى أسماء جميع الكائنات بعد أن أطلعه عليها .ثم دعوة الملائكة للسجود له ، على أساس أنه سيكون خليفة من الله في أرضه .
وقد سجد الملائكة كلهم أجمعون ، ما عدا إبليس (من الجن) الذى رفض، مستندا إلى أفضليته على آدم ، حيث أنه خلق من النار ، وآدم من الطين ، والطين فى رأيه أفضل وأشرف من الطين . حينئذ غضب الله تعالى من عصيان إبليس ، فقرر طرده من ملكوته السماوي إلى الأرض ، لكنه عاد فالتمس من الله تعالى أن يتركه مدى الحياة الدنيا ليقوم بفتنة آدم وبنيه .وقد سمح الله تعالى له ولأتباعه بذلك ، مؤكدا في نفس الوقت أنهم لن يستطيعوا أبدًا إغواء المؤمنين المخلصين من بني آدم .
المرحلة الثانية : آدم وزوجه في الجنة .
ثم خلق الله تعالى زوجا لآدم من نفسه .وأمرهما أن يسكنا الجنة .(وما زال الحديث هنا عن الملكوت السماوي ، وليس جنة أرضية كما ذهب البعض) لكي يتمتعا بكل خيراتها ، مقابل شرط واحد :
ألا يأكلا من شجرة معينة فى الجنة (لم يحدد القرآن اسمها ولا نوعها) لكن الشيطان ، الذى كان معهما فى الجنة ، أغراهما بالأكل منها ،موحيا لهما أنها الشجرة التي تضمن لهما الخلود ، والملك الذى لا يبلى.
بمجرد أكلهما من الشجرة أصبحا عاريين ، واطلعا على عوراتهما .وهنا آية تفسر ذلك فى قوله تعالى :
(يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ) [سورة الأعراف : 27] وهذا معناه أنهما كانا مرتديْن ملابس معينة .
حينئذ أدركا ذنبهما وراحا يداريان أنفسهما من ورق الجنة ... أمرالله تعالى أن يهبط آدم وحواء إلى الأرض .ليحصلا على احتياجاتهما بالعمل والجهد والمعاناة وقد ظل آدم يستعطف ربه ، حتى تاب عليه ، من خلال كلمات أوحى بها إليه.
المرحلة الثالثة : آدم وأبناؤه على الأرض
وهنا يأخذ خلق الإنسان اتجاها آخر .فبعد أن كان الخلق بالنسبة لآدم من تراب وطين وصلصال كالفخار، سوف يصبح بالنسبة لبنيه نتيجة التزاوج بين الرجل والمرأة (كما هو الحال بين الذكر والأنثى في الحيوانات والنباتات).
وسوف يتكرر هذا الخلق ملايين المرات ، بنظام مطرد ، ودقة متناهية، (باستثناء الحالة الوحيدة – المعجزة التي حدثت في خلق عيسى عليه السلام ( من خلال المني ، الذى يتكون بداية في صلب الرجل ، وترائب المرأة.ثم يتم قذفه فى رحم المرأة ، فيصبح نطفة ، تتحول إلى علقه ، فمضغة ، فعظام ، ثم يكسو الله العظام باللحم ، ثم ينشئه خلقا آخر ، أي جنينا مكتملا حتى يحين وقت ولادته.
والملاحظ هنا أن كل مرحلة من مراحل تكون الجنين فى بطن أمه يعبر عنها القرآن الكريم بالخلق.
وإذن فنحن هنا أمام خلق متجدد ..ثم إن الله يهب لمن يشاء الذكور ، وللبعض الآخر الإناث ،
ويزاوج أحيانا بينهما .ويجعل من يشاء عقيما ، لا ينجب.
وهكذا فإن المرأة التي خلقها الله تعالى لكي تؤنس آدم في الجنة ، قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من عملية الخلق ، الذي يخضع لقانون الزوجين.والله تعالى يقول إنه خلق الأشياء كلها أزواجا.
الخلق والصورة الإنسانية :
يصف الله تعالى نفسه فى القرآن الكريم بأنه ( الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ). وقد سبق القول بأن : الخالق هو الذى يوجد الكائنات من العدم .والبارئ هو الذى ينشئها إنشاءً جديدا ، وعلى غير مثال ، والمصور هو الذى يشكلها في مختلف الصور. وقد تعددت الآيات القرآنية التى تحدث عن أن الإنسان قد حظي – من حيث الشكل ، والمكانة والتفضيل الإلهي – بمزايا كثيرة ، ونعم كبرى .
فمن حيث الشكل :- ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ) [سورة الأنفطار : 6 ، 7 ، 8]
- ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) [سورة التغابن : 3]
- ( نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ) [سورة الإنسان : 29]
-أما قمة الوصف الإلهي لشكل الإنسان فتتمثل فى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ )[ التين : 4]
ومن حيث المكانة :
ترجع أفضلية الإنسان إلى ما قبل خلقه ، حين أخبر الله تعالى الملائكة بأنه سوف يخلق إنسانا ، يكون خليفة فى الأرض:-( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [سورة البقرة ، 30]
ولكي يؤهله لذلك، علمه أسماء جميع الكائنات ، فتفرد بذلك على الملائكة ،الذين سجدوا بأمرالله له :
-( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ،ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ ، فَقَالَ :أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ؟
قَالُواْ سُبْحَانَكَ !لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ،إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ،
فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ،وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ .وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ : اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ..إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) [سورة البقرة ، 30-34].
كذلك يستمر التكريم الإلهي لآدم بعد خلقه في أحسن تقويم ، وتعليمه الأسماء ، وسجود الملائكة له ، فيخلق الله تعالى لآدم من نفسه زوجًا تكون سكنا له ،ثم يأمرهما بسكنى الجنة ، والتمتع بطيباتها كما يشاءان ، باستثناء شجرة واحدة :
- ( وَقُلْنَا : يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ، وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ). [سورة البقرة ، 35]
وتتمثل قمة التكريم الإلهي للإنسان وبنيه فى قوله تعالى : - ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ،وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ( [سورة الإسراء : 70].وهنا نلاحظ أن عبارة (على كثير مما خلقنا) لا تشمل (كل ما خلقنا) ، فهل يعنى ذلك أن هناك مخلوقات أخرى أعلى مكانة من الإنسان ؟ وإذا كانت فهل هي الملائكة ؟
الخلق والرزق
مما يتصل اتصالاً وثيقا بنظرية الخلق في القرآن الكريم فكرة الرزق . والرزق كما نعلم يشمل كل ما ينتفع به الإنسان من الضروريات التى يحتاج إليها (كالطعام والشراب والمسكن والملبس ..) إلى جانب الكماليات التى تحقق له المزيد من الراحة والرفاهية (كالقصور والأثاث الوثير والخدم ..).
ويؤكد القرآن الكريم على أن الله تعالى هو ( الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) . وأنه وحده الخالق الذي يرزق البشر من السماء والأرض .وبالنسبة إلى دورة حياة الإنسان على الأرض ، فالله تعالى هو الذى (يَخْلُقُ ، ثم يَرْزُقُ ، ثم يميت ، ثم يحيى .) وهكذا يأتي الرزق فى المرتبة التالية مباشرة للخلق . وهو نعمة كبرى تحفظ على الإنسان حياته وصحته ، وتوفر له متاع الدنيا لكي يتجه إلى عبادة الله ، وشكره على جزيل عطاياه ( فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ) [سورة العنكبوت : 117] ويتعجب القرآن الكريم من حال أولئك الذين يتجهون بالعبادة إلى مَنْ لم يخلقهم ولا يرزقهم ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ) [سورة النحل : 73] .
لقد جعل الله تعالى الأرض بكل خيراتها الظاهرة والباطنة مصدرًا أساسيا لرزق الإنسان ، وسائر الكائنات الحية ، كما تكفل بهذا الرزق ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) [سورة هود : 6] ، ( وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) [سورة النمل : 64] ، ويتكرر فى سورة القرآن الكريم رزق الله للبشر من الطيبات (غافر ، الإسراء ، النحل) أما رزق الله من السماء فيتمثل فى المطر ) وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ( [سورة البقرة : 22] ،( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ )[سورة الحج : 5]
ويؤكد القرآن الكريم على أن الله تعالى ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ) [سورة الشورى ، 12] أي يوسع الرزق لبعض الناس ، ويجعله على قدر الحاجة فقط لأخرين . وهو يبين الحكمة من هذا "التقدير" بقوله ( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) [سورة الشورى : 27] والقاعدة القرآنية تقرر( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [سورة العلق : 6] ومن المؤكد أن الله تعالى لا يرضى للإنسان أن يبغى في الأرض ، ولا أن يطغى ويتكبر على أمثاله من البشر ، وغيرهم من الكائنات الأخرى .
وهكذا فإن التوسعة في الرزق كما تقتضىي الشكر والطاعة والمزيد من العبادة ، فإن التقدير فيه يتطلب نفس الأمر ، لأن الله الذي خلق الإنسان ، ويعلمه جيدا ، هو الأدرى بمصير ذلك الشخص الذي قد يتسع رزقه فيطغى ويبغي ويسقط في الضلالة والشرك .
استمرار البحث في خلق الإنسان:
من الملاحظ أن مسألة خلق الإنسان ، سواء في العلوم الحديثة كالجيولوجيا والأنثربولوجيا والكيمياء والأحياء وبحوث الجينات والنانو تكنولوجي... الخ ، أو في القرآن الكريم والتصور الإسلامي بعامة – ما زالت تشغل الباحثين المحدثين. ويلاحظ أيضا أن بعض أساتذة الطب والهندسة قد أدلوا بآرائهم القيمة في هذا المجال ، أي أن الأمر لم يعد يقتصر على علماء الدين المتخصصين في الدراسات الإسلامية وحدهم . ويمكن القول إنه في العشرين سنة الأخيرة ، الواقعة بين القرن 20 ، والقرن 21 قد ظهر فى هذا المجال ما يقرب من عشرين كتابًا ودراسة ، أي بمعدل بحث أو كتاب فى كل عام .
إن هذا يدل على أهمية الموضوع ، وانشغال العقل العلمي به ، والبحث المتواصل فيه ، لكنه يشير من ناحية أخرى إلى اكتشاف جوانب جديدة له ، وعدم الإجماع على الكلمة الأخيرة فيه .
ظهر كتاب (أبي آدم) للدكتور عبد الصبور شاهين فأثار ضجة إعلامية ، وأدخل صاحبه إلى ساحة القضاء ، حتى تمت تبرئته من الاتهام بخروجه عما هو معلوم من الدين بالضرورة(63) وتتمثل الفكرة الرئيسية في هذا الكتاب فى محاولة التمييز بين لفظ (بشر) ولفظ (إنسان) الواردين فى القرآن الكريم ، حيث يرى المؤلف أن البشر وجدوا قبل خلق الإنسان الأول = آدم ، بملايين السنين ، وأنهم كانوا شبه من حيث الشكل بالإنسان من ناحية ، وبالحيوانات فى تصرفاتها الوحشية من ناحية أخرى(64)، وذلك بهدف تفسير وجود الحفريات الجيولوجية التى تثبت وجود هذه المخلوقات منذ أكثر من مليون سنة ، أما آدم وبنوه فلا يزيد عمرهم فوق الأرض على عشرات آلالاف فقط من السنين .
وعلى الرغم من أن د. عبد الصبور شاهين يذكر أنه أمضى خمسًا وعشرين سنة فى إنجاز بحثه ، إلا أن هناك مَنْ سبقه إلى نفس الفكرة ، دون أن يحدث أى ضجيج اعلامي ، وهو أستاذ الطب د. محمد فوزى جاب الله . فى كتابه المختصر الجيد (التطور وأصل الإنسان من منظور إسلامي) يقول فيه : "أما أشباه البشر فهم شكلا أقرب إلى البشر حين يمشون على أرجلهم ، ويلتقطون بأيديهم ، ويستخدمون عقولهم بما لا يتجاوز الإمكانيات الذهنية لطفل، ولهذا اختلط الأمر على الملائكة واعتقدوا بأن خليفة الله سوف يكون من تلك الخلائق غير المسئولية وغير المؤهلة ذهنيا للاستخلاف في الأرض" (65) .
وبالعودة للوراء قليلا ، لابد من الإشارة إلى الدكتور عبد الفتاح طيره ، الأستاذ بكلية طب قصر العيني ، وأيضا أستاذ د. محمد فوزى جاب الله ، الذي ألف كتابًا ضخمًا بعنوان (خلق الإنسان) ذهب فيه إلى الرأي نفسه ، بعد إيراد العديد من التفصيلات الجيولوجية والكيميائية .
أما العقاد ، وهو أسبق من هؤلاء جميعا ، فهو يناقش فى كتابه (الإنسان في القرآن الكريم) نظرية دارون بالتفصيل ، ويتتبع ما أثارته من ردود أفعال سواء فى الغرب ، أو فى العالم الإسلامي . وينتهى من ذلك كله بقوله "والبشر وجدوا وانتشروا على جهات متقاربة من العالم القديم منذ العصر "الميوسيني" قبل نحو مليون سنة ، وأنهم كانوا على حالة متوسطة بين الحيوان الناطق وطبقة بشرية دون هذه الطبقة ، ثم تميزت خصائص الإنسان بعد ابتداء العصر الجليدي منذ نحو مليون سنة . ولكن الإنسان الذى استخدم الآلات وصاغها من العظام والحجارة لا يعرف له تاريخ جلي قبل مدة تتراوح فى تقدير العلماء بين 200 ألف و 100 ألف سنة."
ونحن لا نريد أن نغوص طويلاً فى تاريخ الفكر الإسلامي حيث نجد أفكارًا مشابهة ، بل وسابقة على فكرة التطور الداروينية نفسها ، لدى كل من إخوان الصفا ، ومسكويه ، وابن خلدون ، وحتى عند شاعر كبير مثل أبي العلاء المعري .. فقد صرح بعضهم بإمكانية وجود (أوادم) آخرين ، سابقين على آدم = الإنسان العاقل ، المسئول الأخلاقي ، الذى خلقه الله تعالى ليعمر الأرض ، ويعبد الله تعالى ، ويكون مسئولاً عن أفعاله ، ومحاسبًا عليها .
ويمكن القول من جانبنا إن البحوث الحديثة حول نظريات خلق الإنسان في العلوم ، ومحاولة التوفيق بينها وبين حقائق القرآن الكريم قد تكون أمرًا ضروريا ومطلوبًا عندما تصل معطيات هذه العلوم إلى درجة من اليقين العلمي المجمع عليه ، ولكنها ما زالت حتى الآن ، وباعتراف أصحابها أنفسهم ، فى طور الافتراضات ، والتخمينات ، ومحاولة ملء الفراغات الطبيعية بتصورات عقلية لا تستند إلى قواعد المنهج التجريبي الحديث . إن من أهم مميزات النظرية القرآنية فى خلق الإنسان أنها متماسكة ، وخالية من أي تناقض داخلي، وكذلك من أي تعارض مع المشاهدات الحسية التي نتابعها فى جسم الإنسان ، وكذلك في أحوال العالم من حوله .
خاتمة ونتائج :
إن عناصر قصة خلق الإنسان فى القرآن الكريم تتناثر آياتها وتتنوع وتتعدد لكنها فى النهاية تتكامل فى نظرية متماسكة . ولا شك أن هذا التماسك يضفى عليها الكثير من خصائص المصداقية والإقناع ، كما أنها تملأ الفراغات التي يسعى العقل دائمًا إلى التنقيب فيها بحثا عن إجابة شافية .
إن خلق الإنسان ليس إلا جزءًا من عملية الخلق الكبرى ، التي شملت السماوات والأرض وما بينهما ، ومع أن هذه الأجرام الكبرى قد أوجدها الله تعالى من العدم ، فإن الإنسان قد نشأ من عناصرها : الماء والتراب ، اللذين تحولا إلى طين لازب ، فحمأ مسنون ، فصلصال كالفخار .. ثم تم تسويته وتعديله حتى أصبح مؤهلاً لنفخ الروح الإلهي فيه . وهنا حدث تكريمه بسجود الملائكة له ، بعد أن علمه الله أسماء الكائنات ، كما منحه الأنس بخلق زوج له من نفسه ، وأسكنها معه فى الجنة. إلى هنا والحديث عن الملأ الأعلى .أما فوق الأرض، فإن الخلق يأخذ منحى آخر، ينتج عن التقاء الرجل بالمرأة ، كما يحدث لدى الحيوانات والنبات من التقاء أو تلقيح.وهكذا يكشف الله تعالى سر الخلق للإنسان ، لكي يطمئن على مصدر وجوده ، ويتيقن في نفس الوقت من أنه جزء من تدبير إلهي ، أنشأه بالخلق ، وحافظ على استمرار وجوده بالرزق ، تمهيدًا لبعثه فى حياة خالدة ، لا فناء فيها ولا عدم .
مطلوب من الباحثين المسلمين بالذات أن يقرؤوا بعناية آيات القرآن الكريم المتعلقة بالخلق عموما ، وبخلق الإنسان على نحو خاص ، وما يرتبط بهذا وذاك من صفات إلهية ، وشواهد حسية ، واعتبارات عقلية لكي يستخلصوا الأفكار الرئيسية والفرعية في هذه الموضوعات ، وهذا ما حاولنا القيام به هنا فيما يتعلق بخلق الإنسان فقط ، دون أن نخلط شيئا من ذلك بنظريات العلماء المحدثين أو اكتشافاتهم حول هذا الموضوع . وليس ذلك تقليلاً من شأنها ، أو رفضًا لها ، وإنما لأننا اتجهنا إلى مصدر أساسي وهو القرآن الكريم ، وحاولنا استخلاص نظرية خلق الإنسان منه . ونستطيع أن نؤكد بكل اطمئنان أن ما ورد فى القرآن الكريم حول هذا الموضوع لم ينتقض حتى اليوم بأي حقيقة علمية قررها الباحثون المحدثون .
لقد أدى عرضنا لنظرية خلق الإنسان فى القرآن الكريم إلى استخلاص مجموعة من الأفكار والمبادئ ، يمكن أن نجملها فيما يلي:
أولاً : إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته ، بل وجميع صفاته الأخرى ، بناء على تفرده بالخلق ، من خلال دلائل محسوسة ، وحقائق مؤكدة .
ثانيًا : إثبات أن الخالق هو الذى يسيّر خلقه كما يشاء ، ويزيد فيه ، ويحفظه تبعًا لسنين إلهية ، غاية فى الدقة والانتظام .
ثالثًا : الإجابة الواضحة والمقنعة عن الأسئلة الوجودية الثلاث ، والتى حيّرت الإنسان قديمًا وحديثًا ، وهى :من أين أتيت ؟ لماذا أنا موجود ؟ ما هو المصير ؟
رابعًا : تأكيد أن الله (الخالق) هو أيضا (الرازق) والرزق هو الذى استمرار تماسك الوجود ، وإمكانية حياة الإنسان فيه إلى حين وفاته ، لكى يبعث بعد ذلك من جديد .
خامسًا : توفر نظرية خلق الإنسان القرآنية على الفلاسفة والمتكلمين المسلمين الكثير من الجهد والجدل في محاولاتهم إثبات العقيدة الإسلامية بالاعتماد على أدلة عقلية وجدلية لا يفهمها الناس جميعا .
سادسًا : تؤسس نظرية خلق الإنسان فى القرآن الكريم لإنشاء "علم عقيدة جديد" يعتمد على الآيات القرآنية ، وتفسير بعضها لبعض ، مع التركيز على ما تنطبق عليه في الكون وفي الإنسان .
سابعًا : انعدام الجدوى العملية من خلط النظرية القرآنية بمجريات العلوم الحديثة مثل الجيولوجيا والأنثروبولوجيا والكيمياء والحياة ، لكى لا نشوش على عقل المسلم بأمور ظنية وما زالت غير مؤكدة باعتراف العلماء أنفسهم مع حقائق عقيدته المستمدة بصورة واضحة ومباشرة من القرآن الكريم .اه
عناصر خلق الإنسان الأول:
1- الماء: يعبر الماء هو العنصر الأول الذي خلق الله منه كل شيء حي سوى الملائكة والجن مما هو حي لأن الملائكة خُلِقوا من النور، والجان خُلِقَ من النار، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30]. ويدخل في قوله تعالى: (كُلَّ شَيْءٍ) جسم الإنسان، بل يمكن لنا أن نقول: إن قمة هذه المخلوقات جميعها هو الإنسان، وقد خلقه الله تعالى من الماء. يقول الله تبارك وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) [الفرقان:54] .
2-التراب: التراب هو العنصر الثاني من عناصر خلق أبي البشر آدم عليه السلام قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آلِ عمران:59].
والتراب عنصر أساسي من عناصر تكوين كل إنسان بعد آدم عليه السلام إذ من التراب النبات، ومن النبات الغذاء، ومن الغذاء الدم، ومن الدم النطفة، ومن النطفة الجنين، قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [فاطر:11]. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [غافر:67]. قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم:20]. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْوَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج:5]. هناك تحقيق آخر للعلماء حول خلق الله الناس من تراب، وهو أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجه، ثم خلقهم منها عن طريق التناسل، فلما كان أصلهم الأول من تراب، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب، لأن الفروع تبع الأصل، وقد توصَّل العلم الحديث إلى أن كل العناصر المكونة للإنسان هي عناصر التراب.
ثانياً: مراحل خلق الإنسان الأول
1- الطين: وهذا الطين ناتج من امتزاج عنصري الماء والتراب ولذلك فالطين هو المركب الذي يتكون منه خلق جسد الإنسان. قال تعالى: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [السجده:6-9]. ويصف الله سبحانه وتعالى هذا الطين بأنه كان طيناً لازباً أي: لزج لاصقاً متماسكاً يشد بعضه ببعض، قال تعالى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) [الصافات:11]. ومما هو جديرٌ بالذكر أن سبب اختلاف البشر في صفاتهم وأشكالهم وأخلاقهم يرجع إلى المادة التي خلق الله منها آدم حيث جمعها من جميع الأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض، والأحمر، والأسود، وبين ذلك والسهل والحزن، وبين ذلك والخبيث والطيب، وبين ذلك» (أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: "حسن صحيح".
2- الحمأ المسنون: ترك الله تعالى هذا الطين بعد أن مزج عنصريه حتى صار حمأ مسنوناً قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر:26]، والحمأ هو الطين الأسود المتغيِّر، كما عليه أقوال المفسرين أما المسنون ففيه خلاف بين المفسرين قيل المصور من سنة الوجه وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة *** ملساء ليس بها خال ولا ندب
وعن بن عباس رضى الله عنه أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن معنى المسنون وأجابه بأن معناه المصور قال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال له ابن عباس: "نعم أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو يمدح رسول الله عليه وسلم: أغر كأن البدر سنه وجه *** جلا الغيم عنه ضوءه فنبودا
وقيل المسنون المصبوب المفرغ؛ أي أفرغ صورة الإنسان كما تُفرَغ الصور من الجوهر في أمثلتها. وقيل المسنون في رواية لابن عباس ومجاهد والضحاك إنه: "المنتن"، وقال ابن كثير: "المسنون الأملس"، كما قال الشاعر: ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء *** تمشى في مرمر مسنون
ويرجِّح الشنقيطي الرأي الأول بدليل قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر:26] . أي بعد أن مزج الخالق تبارك وتعالى عنصري التراب والماء صار المزيج طيناً لازباً لاصقاً، ثم بعد ذلك صار خذا الطين حمأ أسوداً مسنوناً مصوراً.
3- مرحله كونه صلصالاً: بعد أن صار الطين حمأ مسنوناً في صورة آدم حتى صار صلصالاً كالفخار قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) [الرحمن:14-15]، والصلصال هو: "الطين اليابس الذي يصل أي يصوت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسّه النار فإذا مسّته النار فهو حينئذ فخار"، وهذا قول أكثر المفسرين. وهذا الصلصال يشبه الفخار إلا أنه ليس بالفخار، لأن الله لم يدل آدم النار، حتى يكون فخاراً، قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن:14].
والحاصل أن الله سبحانه وتعالى لما مزج عنصري التراب والماء صار طيناً فلما أنتن الطين صار حمأ مسنوناً مصوراً على هيئته، فلما يبس صار صلصالاً، وإلى هذه المرحلة لم يبدأ آدم في الحياة، أما بخصوص المدة الزمنية التي بين مرحلة الطين والحمأ المسنون والصلصال، لم يحددها الله سبحانه في القرآن الكريم وكذلك لم يرد بشأنها حديثاً نبوياً صحيحاً يستدل به.
ومن الأحاديث التي تُبين هذه المرحلة ما رواه أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طيناً ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنوناً خلقه وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار؛ قال:- فكان إبليس يمرُّ به فيقول له: لقد خُلِقتَ لأمر عظيم. ثم نفخ الله فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطس فلقاه الله رحمه ربه فقال الله يرحمك ربك...» (رواه البزار، والترمذي، والنسائي في اليوم والليلة).
4- نفخ الروح: بعد أن سوَّى الله تعالى الإنسان الأول وصوَّره، ثم صار صلصالاً -أي يبس الطين بعد تصويره-، دبَّت الروح في جسد آدم عليه السلام، قال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص:71-72]. أضاف سبحانه الروح إلى ذاته، للإشعار بأن هذه الروح لا يملكها إلا هو تعالى، وأن مرد كنهها وكيفية هذا النفخ، مما استأثر سبحانه به، ولا سبيل لأحد إلى معرفته، كما قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَاأُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85].
وقد أمر الله سبحانه وتعالى ملائكته قبل خلق آدم أنه بأن عليهم أن يسجدوا لهذا المخلوق بعد أن تدب الروح في جسده، قال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [ص:71-72]، هذه الآية تدل على أنه تعالى لما نفخ في آدم الروح وجب على الملائكة أن يسجدوا له؛ لأن الفاء تفيد التعقيب وتمنع التراخي. يقول صاحب الظلال: "ما كان لهذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوه، القصير الأجل، المحدود المعرفة ما كان له أن ينال شيئًا من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريم (النفخة العلوية التي جعلت منه إنساناً) وإلا فمن هو؟ إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهذيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء، وما الكوكب الأرضي إلا تابع صغير من توابع أحد النجوم، ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه... فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له الملائكة الرحمن إلا بهذا السِّر اللطيف العظيم؟ إنه بهذا السِّر كريم كريم، فإذا تخلَّى عنه أو اعتصم منه ارتد إلى أصله الزهيد من طين."
مراحل خلق الإنسان في بطن أُمِّه:
كما أن القرآن الكريم تحدّث عن مراحل خلق الإنسان الأول، كذلك تدرج في الحديث عن خلق سلالة هذا الإنسان، ومن الآيات التي تشير إلى هذه المراحل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج:5]. وقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:12-14]،وقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان:2].
1- النطفة: ورد ذكر كلمة نطفة في القرآن الكريم في اثنا عشر آية: قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل:4]. قال تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) [الكهف:37]. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] . قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:13-14]. قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [فاطر:11]. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [يس:77]. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ) [غافر:67]. قال تعالى: (مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) [النجم:46]. قال تعالى: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) [القيامة:37]. قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان:2]. قال تعالى: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس:19].
وجاءت هذه المرحلة؛ بعد اكتمال خلق أول ذكر وأول أًنثى من الكائن البشري، والنطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة.
وما أن يتم التحام الحيوان المنوي بالبويضة؛ حتى تباشر البويضة الملقحة بالانقسام إلى خليتين، فأربع، فثمان وهكذا... دون زيادة في حجم مجموع هذه الخلايا عن حجم البويضة الملقحة، وتتم عملية الانقسام هذه والبويضة في طريقها إلى الرحم، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي:
2- العلقة: ورد ذكر لفظ العلقة في القرآن الكريم في خمس آيات: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج:5]. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [غافر:67]. قال تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون:14]. قال تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) [القيامة:38].
والعلقة: هي القطعة من العلق وهو الدم الجامد. وبعد أن تصل البويضة المخصبة إلى الرحم؛ وبعد انقسامها تصبح عبارة عن كتلة من الخلايا الصغيرة، يُطلَق عليها اسم التوتة حيث تشبه ثمره، حينئذ تتعلق بجدار الرحم، وتستمر في التعلق مدة أربع وعشرين ساعة، وتتميز العلقة من طبقتين هما: طبقة خارجية "آكلة ومغذية"، وطبقة داخلية، ومنها يُخلَق الله الجنين.
وقد سمَّى الله سبحانه أول سورة نزلت في القرآن باسم هذه المرحلة، ليُذكِّرنا الله سبحانه بتلك اللحظات التي كان فيها الإنسان عبارة عن كتلة دم عالقة بجدار الرحم تستمد منه الدفء والغذاء والسكن، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) [العلق:1-2].
3- المضغة: ذُكر لفظ المضغة في القرآن الكريم ثلاث مرات مرتين في سورة [المؤمنون:14]. ومرة واحدة في سورة [الحج:5]، والمضغة هي القطعة الصغيرة من اللحم بقدر ما يُمضَغ وبعد عملية العلوق تبدأ مرحلة المضغة في الأسبوع الثالث، وهذا الطور يمرُّ بمرحلتين:
أ- غير المخلَّقة: تستمر هذه المرحلة من الأسبوع الثالث حتى الأسبوع الرابع، ولا يكون هناك أي تمايز لأي عضو أو جهاز.
ب- المضغة المخلَّقة: يمرُّ الحمل بعد نهاية الأسبوع الرابع بجملة من التغيرات الدقيقة والمدهِشة وتنمو فيها الخلايا وتتطور، ليكون الإنسان في أحسن تقويم وتنتهي هذه المرحلة في نهاية الشهر الثالث تقريباً. وقد أشار القرآن الكريم إلى هاتين المرحلتين فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج:5].
وقد راعى القرآن الكريم الفارق الزمني والخلقي بين كل طور من أطوار الخلق؛ فالمسافة بين النطفة والعلقة مسافة كبيرة في ميزان الخلق وإن كانت غير بعيدة في حساب الزمان. ولذا جاء التعبير في النقلة بين النطفة والعلقة فاصلاً بينهم بثم".... (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)؛ فالمسافة شاسعة بين النطفة والعلقة سواءً أكانت نطفة الذكر "الحيوان المنوي" أم نطفة الأنثى "البويضة"، أو هما معاً "النطفة الأمشاج" والتي في قناة الرحم لتصل إلى القرار المكين فتستقر فيه، ولكن النقلة بين العلقة والمضغة سريعة والمسافة قريبة، فإن العلقة تدخل إلى المضغة دون أن يكون هناك فارق زمني أو خلقي كبير ومن ثم جاء التعبير عنها بالفاء، دلالةً على الاتصال فيها (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً)، وكذلك بين المضغة والعظام: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)، ثم تبطىء السرعة، ويأتي فارق زمني وخلقي (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) .
4- العظام: في هذا الطور تتحول قطعة اللحم إلى هيكل عظمي، قال تعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) [المؤمنون:14].
5- كساء العظام باللحم: قال تعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) [المؤمنون:14]، فهذه الآية تشير إلى أن العظام تتشكَّل أولاً ثم يلتف حولها اللحم والعضلات كأنه كساء لها، وهذا التصوير الدقيق يشير إلى عظمة القرآن ودقته.
6- الخلق الآخر: وفى هذه المرحلة يكون نفخ الروح، وتكون هذه النفخة بعد مرحله العلقة نحو أربعه أشهر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمِّه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» (رواه البخاري؛ بدء الخلق، ومسلم: القدر). قال تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ)، أي خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينةً ما أبعدها، حيث جعله حيواناً بعد أن كان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره، بل كل عضو من أعضائه بل كل جزء من أجزائه، عجائب فطرية، وغرائب حكمته، لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح.
قال تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [الزمر:6]. يقصد بهذه الظلمات: "ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة".
وبعد مرحلة النفخ تأتي مرحلة تكوين السمع والبصر، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]. وقدّم سبحانه السمع قبل البصر، وقد ثبت علمياً أن السمع يتكون قبل البصر، ثم بعد ذلك يستمر نمو الإنسان في بطن أُمِّه يوماً بعد يوم إلى أن يكتمل نموه ويصير طفلاً (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا).
المستفاد من دراسة أطوار خلق الإنسان:
1- أن هذا الإنسان الذي بدأ الله تعالى خلقه من طين وماء مهين، كرَّمه سبحانه وتعالى؛ حيث جعل الملائكة العابدين الطائعين يسجدون له، سجود طاعه لله لا سجود عبادة لآدم، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة:34]، وكذلك أخرج من رحمته من رفض السجود له. لذلك نهى العلماء أن يُهان الإنسان وأن يُضرَب على وجهه حتى ولو كان لأجل التربية وتقويم السلوك.
2- خلق الله تعالى في عدة أطوار، حيث أنشأه سبحانه بالتدرج طوراً بعد طوراً حتى صار في أحسن تقويم، وهو جل شأنه قادراً على أن يقول له كن، ولكنه سبحانه وتعالى اختار لنفسه سُنة الإنشاء المتدرِّج، وهذه هي سنه الله تعالى في خلقه. ولذلك علينا أن نأخذ هذا التدرُّج بعين الاعتبار في تربية الإنسان، فعملية التربية لا تأتي دفعة واحدة.و تتابع هذه الأطوار طوراً بعد طوراً، يشهد بوجود الله سبحانه وتعالى، وبيان عظمته جل شأنه وبديع صنعه، كما أن نشأة هذه الأطوار وتتابعها بهذا النظام، يدل على مقصودٍ مدبِّر ولا يمكن أن يكون مصادفة.
3- كانت قبضه التراب التي خُلِقَ منها آدم من جميع الأرض، لذلك خرجت ذريته متفرِّعة متنوعة مختلفة منها الأسود والأبيض والطويل والقصير والصالح والطالح، وعلى هذا فإن هناك فروقاً فردية بين البشر جماعات وأفراد، وعلى المربين أن يُنوِّعوا ويُغيِّروا من أساليبهم وطرقهم في التربية .
4- الطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالى، والاستسلام والانقياد لأوامره سبحانه وتعالى، وأن من سوَّلت له نفسه الاعتراض وعدم المبادرة فهو ملعون مطرود من رحمته جل وعلا.
5- خلَق الله الإنسان في أحسن تقويم قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4]. يتكون الإنسان من جزئيين أساسيين جزء ملموس وجزء محسوس وهما الجسد والروح ولا بد أن يتم إشباع الجزئين، فكلاً منهما يؤثر ويتأثر بالآخر.
عناصر ماهية الإنسان في القرآن الكريم والمذاهب الفلسفية المادية والروحية:
كينونة الإنسان التي يعبّر عنها بـ "ماهية الأنا" ليست حقيقتها الوجوديّة مستمدّة من ذاتها، وإنّما هي مستمدّة من خارجها، أي من واهب الوجود لها وهو الله تعالى، فدلالة وجودها لا تُلتمس في ذاتها، بل تُلتمس من واهب الوجود لها.
والتركيب الإنساني قد أُودع فيه من عظيم القدرات ووفير الطّاقات، ومن لطيف الأسرار ودقيق الآلات ما ينبئ يقينا بأنّه أُعدّ لغايات عليا، وأُنيطت بعهدته مهامّ جسيمة تفوق الغايات والمهامّ التي خُلقت من أجلها جميع الكائنات الأرضية الأخرى، فقد "خلقه الله سبحانه على فطرة جامعة، لها من القدرة ما يثمر ألوف سنابل الأنواع، وما يعطي طبقات كثيرة بعدد أنواع سائر الحيوانات، إذ لم يحدّد سبحانه قوى الإنسان ولطائفه ومشاعره كما هو الحال في الحيوانات، بل أطلقها واهباً له استعداداً يتمكّن به من السياحة والجولان ضمن مقامات لا تحدّ، فهو في حكم ألوف الأنواع وإن كان نوعاً واحداً، ومن هنا أصبح الإنسان في حكم خليفة الأرض".
إنّ التّكوين الإنساني في بعديه المادّي والرّوحي، حينما يُتأمّل بالنّظر الدّقيق بما يفوق لحظة وجوده الرّاهنة إلى الدّلالات الزّمنية لتركيبه؛ فإنّ ذلك التّأمّل يفضي إلى يقين بأنّ هذا التّكوين يمتدّ في دلالته الزمنية إلى ما يتجاوز مقدّراته من الحياة في هذا العالم المشهود إلى آماد أخرى من الحياة، تمضي في الزّمن إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وتلك هي حياة الخلود التي ليس لها نهاية.
والجهة الثانية من جهات التكوين الإنساني في مضمار دلالتها على الحياة الأخرى، هي المتعلّقة بما هو مضمر في النّفس البشريّة من الآمال والأشواق والمطالب الرّوحية، فهذه النّفس تنطوي من ذلك على أقدار واسعة جدّاً تتجاوز إلى غير حدّ ما هو متاح لتلبيتها في حياة الشّهادة، فالإنسان ينطوي على حبّ للعلم لا يشبعه المتاح في حياته، بل لا تكفي تلك الحياة لإشباعه، وينطوي على شوق للبقاء لا يلبّي منه العمر إلاّ شيئاً قليلاً، وينطوي على تطلّع للسّعادة لا يتحققّ منها في الحياة الدّنيا إلاّ النّزر اليسير، وقد لا يتحقّق منها شيء.
إنّ حقيقة الإنسان وكمالاته، وحاجاته الفطرية، وآماله الأبدية، وحقائقه واستعداداته، تدلّ قطعاً على الآخرة، وعلى الجنّة، وعلى لذائذ مادّيّة محسوسة باقية، وتشهد على تحقّقها.
فشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان:
بينما فشلت فالفلسفة المادية في تفسير ظاهرة الإنسان نظراً لكونها ظاهرة مركبة، فعقل الإنسان له مقدرات تتحدى النموذج التفسيري المادي، ولا يمكن اعتبار الفكر صورة من صور المادة، ولا يمكن تفسير حس الإنسان وتساؤلاته عن الأسئلة النهائية الكبرى على أساس مادي، وصعوبة تفسير إصرار الإنسان على أن يجد مركزاً له في الكون، فالفلسفة المادية ترسم صورة واحدية للإنسان.
الفلسفة المادية لا تقبل سوى المادة كشرط وحيد للحياة، لذا فهي ترفض الإله كشرط من شروط الحياة، وترفض الإنسان نفسه إن كان متجاوزاً للنظام المادي. فوفقاً للفلسفة المادية تسبق المادة الإنسان والعقل والأخلاق والتاريخ، فالعقل ليس ضرورياً من أجل استمرار حركة المادة في العالم، فلمعرفة هذا العالم لا يحتاج الإنسان إلى استعارة وسائل من خارج (عالم الطبيعة/المادة). وبالنسبة للأخلاق فترى الفلسفة المادية أن الحاجة الطبيعية هي التي تتحكم في الأخلاق الإنسانية، أما التاريخ فترى الفلسفة المادية أن كل تطور يتوقف على الظروف المادية والاقتصادية.
والهدف من وجود الإنسان على الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية والهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي، ومن خلال تراكم المعرفة يخضع كل شيء -الإنسان والطبيعة- لحكم العقل وقانون الأرقام ليتحول الواقع بأسره -طبيعة وبشراً- إلى جزء متكامل عضوي تنتظمه شبكة المصالح الاقتصادية والعلاقات المادية، فيصبح الواقع أشبه بالسوق والمصنع، كل شيء فيه محسوب بعد استبعاد الاعتبارات غير المادية (الغيبيات).
ترجع الشيوعية في تفسيراتها في كل شيء إلى التفسير المادي، ومعنى ذلك أنها ترى أن الإنسان ما هو إلا مادة ، وجميع مجالات الحياة المرتبطة به، مثل الأسرة، والقيم المعنوية والمبادئ الفكرية، وتسنتد في رأيها هذا إلى أنها تعتبر المادة هي الأصل لكل شيء، وأنها الأساس الذي انبعثت منه الكائنات الحية وغير الحية، والمادة التي هي بنظر الشيوعية الخالق الذي أنشأ الحياة، والإنسان، ومشاعره وأفكاره. ( لا إله و الحياة مادة ).
وتقدس الرأسمالية الفرد، وتؤمن بالإنسان إيماناً مطلقاً لا حدود له، وتجعله محور الحياة كلها، وفكرتها عن الإنسان أنه مجرد من الأفكار الأخلاقية والروحية، أي أنه كائن مادي بحت يهتم بغاياته ومصالحه، ولا يعطي المجتمع أي اعتبارات أو أهمية من رفعة معنوية وسمو أخلاقي، كما أن الدولة الرأسمالية تهتم بحماية الأفراد ومصالحهم الشخصية، وبتلك النظرة يبقى الإنسان في الرأسمالية يشعر بالخطر، وأنه في صراع مستمر سلاحه الوحيد فيه هو قوته الخاصة، وتحقيق مصلحته فقط هو هدفه. كما أن النزعة المادية التي قامت عليها الرأسمالية كانت سبباً في تخلي الإنسان فيها عن الأخلاق، وذلك لأن مصلحته الشخصية هي الهدف الأسمى والأعلى الذي يسعى إلى تحقيقه بأي وسيلة وإن كانت غير أخلاقية.
قيمة الإنسان في الإسلام
التكريم الإلهي للإنسان:
قضى الله بتكريم جنس البشر لحظة إيجادهم، تكريمًا من حيث الصورة والمعنى: يقول الله عز وجل-وهو الخالق العالم بمن خلق-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء، الآية:70].
ويقول تعالى: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) [ص، الآية71].فالله عز وجل يقرر بذاته جل وعلا أنه قد خلق الإنسان بيده من طين الأرض، وهو بذلك ليس تلك الطينة الأرضية الدنيا؛ لأنها اختلطت بروحه التي نفخت فيه، فصارت إنساناً في أحسن تقويم، وفي أكمل صورة، وذلك هو التكريم الأول.
أما التكريم الثاني، فهو أنه سبحانه خلق الإنسان وجعله حراً، بإرادة كاملة في اختيار طريقه، أهَّلَه للاختيار، ووهبه القدرة على التمييز، وجعل له نفساً يستطيع قيادها إن هو أراد، فيقول سبحانه: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها) [الشمس، الآية:8].فالإنسان المكرّم من الله يختار طريقه وهو جدير بالمحاسبة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، أي أنه جدير بتحمل مسؤولية ذاته ومجتمعه والخلافة في الأرض.
وقضى لهم بأسباب الرفعة والفضل قضاء مبرمًا: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70)، والتفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الإنسان ربه ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب.
وليس التفضيل في هذا السياق مرادفًا للتكريم، بل هو مخالف له من جانب العموم والخصوص، فالتكريم منظور فيه إلى تكريم الإنسان بذاته، أي بما فيه من خصائص ذاتية، أما التفضيل فمنظور فيه إلى تشوفه من بين سائر الكائنات، وما أودع الله فيه من قوة تعلم؛ إذ كل إنسان يستطيع أن يضيف إلى العلم شيئًا، فتكثر العلوم، وتقوى الفضائل والمعارف؛ ولكي يحقق الإنسان هذا المقصد ذلل الله له كل شيء وسخره، حتى صار الإنسان في المعمورة كالمخدوم.
ذلك، وقد خصّ الله الإنسان في خلقته دون سائر خلقه؛ فقد خص الملائكة بالقوة الروحية العقلية الحكيمة دون الشهوة، وخص البهائم بالشهوة دون القوة الروحية العقلية، ولم يخص الجمادات والنباتات بشيء من ذلك، وخص الإنسان أن زوده بالقوة العقلية الحكيمة التي توصله بربه، وبالشهوة التي تؤهله لعمارة الأرض وسكنتها.
فقد فضّل الله الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية، مثل: العقل والنطق والصورة الحسنة والقامة المديدة، ثم إنه تعالى عرَّضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل. وعلى هذا، يكون التكريم والتفضيل كلاهما معنيين متكاملين، يكمل أحدهما الآخر، لا مترادفين سِيقا لمجرد التوكيد فحسب.
ولأن للإنسان قيمة كبيرة في الإسلام، ولعلمه الدقيق بخلقه فقد أنزل الله له المنهج المتكامل الذي يلزمه لإصلاح شأنه الخاص، وإصلاح شأنه العام.
-صلاح الأرض بصلاح المنهج:
ولأنه لا صلاح للأرض إلا بصلاح الإنسان الفرد والمجتمع، فقد أنزل منهاجاً تربوياً ربانياً متكاملاً، يبين له طريقه، فهو منهج اعتقادي يشبع حاجة الإنسان وفطرته التي خلقها الله عليها، عقيدة التوحيد الخالص: لهذا الكون إله خالق، وهو رب يقوم على شؤون العباد، وهو وحده المستحق للعبادة، وهو وحده الذي يرزق ويحيي ويميت، ويحاسب ويثيب ويعذب، لا إله غيره.
وهو منهج أخلاقي نابع من تلك العقيدة لا ينفصل عنها، وغير متروك للهوى الشخصي، وهو منهج تشريعي ينظم علاقة الفرد بربه، وعلاقة الفرد بالآخر .
وهو منهج روحي عبادي تتصل فيه الروح بالأرض؛ لتسمو بها، ويتصل فيه الجسد بالروح؛ لتحول حركته في الأرض لتعمير وإصلاح، وعبودية لرب العالمين.فمن ابتعد عن المنهج، فهو بكامل إرادته الحرة التي وهبه الله إياها، فقد استوجب العقاب الأليم، ومن اختار لنفسه التزكية، ومضى حيث أراد ربه، فقد استحق النعيم الأبدي .
مفهوم خلافة الإنسان في القرآن الكريم
عرض المفسرون لبحث خلافة الإنسان في الآيات 30-39 من سورة البقرة و كذلك الآية 39 من سورة فاطر. وحملوا كلمة الخليفة على معناها اللغوي: أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه. و الخليفة هو النائب عن الغير. أما هذا الغير الذي ينوب الإنسان عنه فاختلفت فيه أقوال المفسرين:
-فمنهم من قال إنه خليفة الملائكة الذين كانوا يسكنون من قبل على ظهر الأرض.
-و منهم من قال إنه خليفة بشر آخرين أو موجودات أخرى كانت تعيش قبل ذلك على الأرض.
- و ذهب بعضهم إلى أن الخليفة إشارة إلى أن كل جيل من البشر يخلف الجيل السابق.
و الأمر المسلم بين المفسرين هو خلافة الإنسان في الأرض و الذي أكدته الآيات الكثيرة حيث هذه القضية اقترنت مع الإنسان منذ الأيام الأولى لخلقه في قوله تعالى :
1. "وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً".
2. "وَ هُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ".
3. "هُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْض".
4. "يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَليفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ".
قال البغوي": والمراد بالخليفة ها هنا آدم، سماه لأنه خلف الجن أي جاء بعدهم وقيل لأنه يخلفه غيره والصحيح أنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه".
وقال ابن كثير: يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم بقوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ ﴾ أي واذكر يامحمد صلى الله عليه وسلم إذا قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ أي قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل. كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ﴾ قال: ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ وقال: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴾، وليس المراد ههنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من ﴿ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ...وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك وهل وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن السؤال: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد ذكر الشيخ الشنقيطي في تفسير هذه الآية قولين:
القول الأول: أن المراد بالخيفة أبونا آدم عليه الصلاة والسلام، لأنه خليفة الله في أرضه في تنفيذ أوامره. وقيل: لأنه صار خلفاً من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض بله، وعليه فالخليفة: فعيلة بمعنى فاعل وقل: لأنه إذا مات يخلفه من بعده، وعليه فهو من فعيلة بمعنى مفعول. وكون الخليفة آدم عليه السلام هو الظاهر المتبادر من سياق الآية.
القول الثاني: أن قوله ﴿ خَلِيفَةً ﴾ مفرد أريد به الجمع، أي خلائف، وهو اختيار ابن كثير. وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل الوجهين المذكورين فاعلم أنه قد دلت آيات أخر على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالخليفة: الخلائف من آدم وبنيه لا آدم نفسه وحده. كقوله تعالى: ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾. ومعلوم أن آدم عليه الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها، ولا ممن يفسك الدماء. وكقوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ﴾وقوله: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ ﴾.
لقد شرف الله سبحانه وتعالى الإنسان باستخلافه في الأرض، قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). وهذه الخلافة تقوم على أساس الإصلاح والأمر بالمعروف وتحقيق العدل بين الناس فيما يقع بينهم من مظالم ودفع الفساد والظلم عن الناس والنهي عن الفحشاء والمنكر، لقوله تعالى (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ).
ومهما قيل عن معنى الخلافة فهي تبعة ومسؤولية يورثها السلف للخلف ، تقع تحت تكليف الأمانة التي حَملَها الإنسان واعتذرت عن قبولها السموات والأرض والجبال، قال تعالى (إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).هو استخلاف للابتلاء والاختبار، في القيام بأمره تعالى وتطبيق شرعه.والهبوط إلى الأرض ضرورة لإقامة الخلافة وإقامة منهج الله القائم على التوحيد.
- معلم: ZEGHDOUD ANISSA
- معلم: OUHAB AICHA
- معلم: OUHAB AICHA